بالأمس حدثتك عن التحول فى معطيات الحياة وظروفها وكيف أنها تشكل المدخل الطبيعى لتجديد الخطاب الدينى. ومن يراجع تاريخ المسلمين يلاحظ الدور الذى لعبته التفاعلات الاجتماعية مع العناصر المستجدة على حياتهم فى إعادة صياغة فكرهم الدينى، يستوى فى ذلك القضايا الكبرى التى يرتكز عليها هذا الفكر، بالإضافة إلى ما ينطوى عليه من تفاصيل. دعنا نتوقف أمام واحدة من القضايا الكبرى التى يثبت تتبعها عملية التجديد التلقائى التى أصابت الفكر الإسلامى نتيجة التحولات التى طرأت على حياتهم.. إنها قضية الخلافة.
بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم طرأ طارئ جديد شديد الخطورة على حياة المسلمين، تمثل فى «غياب المرجعية». فأمام أى خلاف ينشأ بينهم كان المسلمون يلجأون إلى النبى فيحسم لهم الأمور. الآن صعد النبى إلى جوار ربه، وأصبح المسلمون مطالبين بالاجتهاد لأنفسهم فى إطار ما تعلموه من النبى ومن القرآن الكريم. كان المسلمون حديثى عهد بالتجربة النبوية فاختاروا من بينهم شخصاً يسوس أمورهم، نعتوه بلقب «خليفة رسول الله». وانطلاقاً من هذه التسمية تحددت أدوار وصلاحيات من يحكم فى إدارة حياة المسلمين تبعاً للتجربة التى عاشوها مع النبى، وتحددت شرعيته فى هذا الإطار «إطار الإضافة إلى النبى». اختلف الأمر بعد وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وتولى عمر بن الخطاب أمر المسلمين، فقد لقبوه فى البداية بـ«خليفة خليفة رسول الله». هذه التسمية كانت تقتضى من الخليفة الجديد العمل تبعاً لتجربة أبى بكر الصديق، وهو أمر ارتضاه الخليفة الثانى فى بداية حكمه، لكن يبدو أن رأيه اختلف بمرور الوقت، فبعد أن تمكن «عمر» من توطيد أركان الدولة وتمديد أطرافها، أصبح لقب «خليفة خليفة رسول الله» يحمل إشكالية تتعلق بمسألة شرعية الخليفة التى يشكل أبوبكر رافداً من روافدها. هنالك غيّر عمر بن الخطاب لقبه إلى «أمير المؤمنين» بدلاً من «خليفة خليفة رسول الله».
أسس عمر بن الخطاب حكمه على شرعية مختلفة عن شكل الشرعية التى استند إليها «أبوبكر»، وعندما اغتيل على يد أبى لؤلؤة المجوسى تولى عبدالرحمن بن عوف الإشراف على مسألة نقل السلطة إلى أحد رجلين: على وعثمان. جمع «ابن عوف» الناس فى المسجد ونادى علَى علِىّ قائلاً: «قم إلىّ يا على»، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ «عبدالرحمن» بيده، فقال: «هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبى بكر وعمر؟»، قال: «اللهم لا، ولكن على جهدى من ذلك وطاقتى»، قال فأرسل يده، وقال: «إلىّ يا عثمان»، فأخذه بيده فقال: «هل أنت مبايعى على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبى بكر وعمر؟»، قال: «اللهم نعم»، قال فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان، فقال: «اللهم اسمع واشهد.. اللهم اسمع واشهد.. اللهم اسمع واشهد.. اللهم إنى قد خلعت ما فى رقبتى من ذلك فى رقبة عثمان». كان على بن أبى طالب أوعى بالتحول الذى أصاب موضوع «الشرعية» على يد عمر بن الخطاب، فأقر بالعمل بالكتاب والسنة، لكنه أبى أن يلزم نفسه بـ«فعل أبى بكر وعمر»، وهو ما ارتضاه «عثمان» ففاز بالحكم.
الشرعية ومصدر الشرعية والأطر المرجعية التى تحكم قرارات الحاكم تعد مرتكزات أساسية يمكننا فى ضوئها وصف وفهم طبيعة «نظام الحكم». والاختلافات السريعة والمتلاحقة التى طرأت على مفهوم «شرعية الحكم» بعد وفاة النبى تضعنا أمام خطاب متجدد ومتغير بشكل متسارع على مستوى «الخلافة»، التى تشكل مفهوماً أساسياً من المفاهيم الكبرى التى ظهرت مبكراً داخل الخطاب الدينى الإسلامى.