كان هناك ١٣ نقطة أخرى، علاوة على طابا، عليها نزاع بين مصر وإسرائيل، ولكن أهمها طابا، كونها «هيئة حاكمة»، وهى لدى الجيش ذات أهمية استراتيجية وحيوية وأكثرها تأثيراً على وضع خط الحدود. وقد دعا هذا إلى عقد مباحثات استمرت عدة شهور فى عام 1986، قبل التوجه إلى «مشارطة التحكيم»، للاتفاق على أسماء وعدد المحكمين والأسئلة التى ستوجه لهم. وبعد محادثات طويلة ومضنية، شاركت فيها أمريكا، حُسم الأمر فى سبتمبر 1986 للتوقيع على «مشارطة التحكيم» فى شكلها النهائى. وكان الأكثر جدلاً فى تلك المباحثات صيغة السؤال الذى يوجه إلى المحكمين، وقد تمسكت مصر بالصيغة، وهى أنه يجب أن تطلب الكشف عن حق موجود لا أن تنشئ حقاً جديداً. وكانت العبرة لدى الوفد المصرى والأجهزة الرسمية هى إقناع اللجنة الدولية بصحة موقفنا، وكان ذلك تحدياً كبيراً استمر عاماً ونصف عام، حدث خلالها عدة مناورات إسرائيلية مضادة، وغير ملتزمة بمعاهدة السلام، ولكن المشارطة حددت مهمة المحكمة بأنها تقرر مواضع علامات الحدود المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، وفقاً لمعاهدة السلام واتفاق ٢٥ أبريل 1982، على أن تجتمع المحكمة خلال ٣٠ يوماً من دخول المشارطة حيّز التنفيذ، مع تقديم المذكرات المكتوبة والمرافعات الشفوية والزيارات للمواقع التى تعتبرها المحكمة وثيقة الصلة، على أن يتم كل هذا خلال ١٥٠ يوماً من تاريخ الجلسة الأولى للمحكمة، ويقدم النقض خلال ٤٥ يوماً. وبالنسبة للتسوية تتكون غرفة محكمة من ثلاثة أعضاء، منهم اثنان وطنيان وواحد محايد يختاره رئيس المحكمة، قبل تقديم الاقتراحات المنتظرة. وقد وافقت كل من مصر وإسرائيل على دعوة القوة المتعددة الجنسيات للدخول إلى طابا وحفظ الأمن هناك. وبعد ذلك أفادت المحكمة الطرفين بأنها ستصدر حكمها خلال تسعين يوماً من إنهاء الإجراءات السابق ذكرها، كما اتفقت الدولتان فى المشارطة على قبول حكم المحكمة بوصفه حكماً نهائياً وملزماً لهما، وتعهدتا بتنفيذ الحكم بأسرع ما يمكن وبحسن النية وفقاً لمعاهدة السلام. وكانت الـ١٣ نقطة الأخرى، بخلاف طابا، تتراوح فيها الخلافات بنسب ضئيلة، ولذا حدد كل طرف على الأرض موقفه بالنسبة لموقع كل علامة حدود فيما عدا نقطة طابا، فقد حددت لها إسرائيل موضعين متبادلين عند «الصخرة الجرانيتية» و«بئر طابا» لعلامة الحدود الأخيرة، وهى رقم ٩١ الموجودة عند نقطة رأس طابا على الساحل الغربى بخليج العقبة، بينما حددت مصر موضع العلامة عند النقطة التى توجد بها بقايا علامة الحدود، وقد تم تسجيل مواقع العلامات التى حددتها الأطراف على الأرض، لأنه ليس من سلطة المحكمة أن تضع علامات حدود أخرى مغايرة لما قدمه البلدان.
وبعد ساعات قليلة من إعلان التوصل إلى اتفاق مشارطة التحكيم فى ١١ سبتمبر 1986 جاء شيمون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل، للقاهرة، وعقد قمة مع الرئيس مبارك، وهو اللقاء الأول لهما منذ عام 1981، فى محاولة إسرائيلية أخيرة، ليحل التوفيق محل التحكيم فى طابا على وجه الخصوص، بحيث يصير هناك نوع من السيادة المشتركة مع إسرائيل على هذه البقعة الغالية، وهو ما رفضته مصر جملة وتفصيلاً، وبدا القول الفاصل للتحكيم عندما أصدر الحكم النهائى بتحديد أماكن علامات الحدود فى ٢٩ سبتمبر 1988، والذى جاء مؤكداً لحقوق مصر التاريخية والقانونية. وقام الحكم بتقسيم العلامات إلى ثلاث مجموعات، الأولى خاصة بالعلامة ٩١ فى طابا، أما الـ١٣ نقطة الأخرى فقد تم تقسيمها إلى مجموعتين، الثانية وهى منطقة رأس النقب، وبها أربع علامات على خط الحدود، وهى ذات أهمية استراتيجية وتاريخية، ونظراً لبعد المسافات المختلف عليها، حيث بلغت المسافة بين الموقع المصرى لإحدى هذه العلامات والموقع الإسرائيلى المدَّعى نحو 2٫5 كم، جاء حكم المحكمة لصالح مصر، أما المجموعة الثالثة فقد شملت تسع نقاط أخرى من العلامات الشمالية فى خط الحدود، وكان حكم المحكمة الاعتراف بخمس علامات من حق مصر وأربع من حق إسرائيل. واستندت المحكمة فى هذا إلى العلامات التى سبق أن حددت مصر مواصفاتها فى خطاب رسمى موجّه إلى الأمم المتحدة عام ١٩٦١، وهو ما يعنى أن أخذ هيئة التحكيم بوجهة نظر إسرائيل بصدد هذه النقاط لا يمثل تنازلاً من جانب مصر عن شبر واحد من أراضيها. وبتوقيع اتفاق طابا الخاص بالإجراءات والتعويضات فى ٢٩ فبراير 1989 وبتمام الانسحاب الإسرائيلى من طابا وإزالة كل مظاهر وجوده، رُفع العلم المصرى على هذه البقعة الغالية فى مارس 1989، ليُسدل الستار على مشكلة السبع سنوات، منذ أثارتها إسرائيل عام 1982، ولتنطلق الجمهورية الثالثة بقوة مع إعلان ولادتها من رحم طابا.