دخلت مصر والمنطقة العربية عالماً آخر فى التشكيل والتسليح والتحالف العسكرى مختلفاً تماماً عن حرب العصر (أكتوبر ٧٣). ويرجع هذا إلى عام ٩٠ عندما بدأت بشائر غزو العراق للكويت تدق الأبواب مما دعا الرئيس مبارك للتدخل أكثر من مرة ليثنى صدام حسين عما ينوى وأن ذلك يسبب حرجاً للتحالف الإقليمى الذى يضم مصر والعراق والأردن واليمن فيما عرف بـ«مجلس التعاون العربى»، إلا أن صدام لم يمتثل لأى نصح أو تدخل لتقريب وجهات النظر بينه وبين الكويت، وقبل نقل الجامعة العربية إلى مقرها بالقاهرة بنحو شهر، وتحديداً فى أغسطس، اتخذ العراق قراره بالغزو بعد أن كان العالم يراقب اجتماعات بين الكويتيين والعراقيين لم تسفر عن شىء سوى تحركات عسكرية عراقية لم تُشهد منذ انتهاء حربها مع إيران، وعقدت الجامعة اجتماعاً طارئاً تباينت فيه المواقف العربية، فالأردن أعلن رسمياً تأييده للعراق واعتبر الحرب عدواناً على الأمة العربية ومثله اليمن، ومن هنا كان موقف مصر مخالفاً للدول المتحالفة معها إقليمياً حيث انحازت مصر بأنها لا ترضى بأن يغزو بلد عربى آخر شقيقاً مهما كانت الأسباب، فى الوقت الذى تحفظت فيه دول مثل تونس والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية وموريتانيا والسودان وليبيا، أما الدول التى ساندت الكويت غير مصر فكانت السعودية والإمارات والبحرين وقطر وعمان وسوريا والمغرب، وفى نهاية الاجتماع أعلن التونسى (الشاذلى القليبى) أمين عام الجامعة آنذاك استقالته اعتراضاً على بدء الحشد ضد العراق.. واستيقظ الرئيس مبارك فجر الخميس ٢ أغسطس بتليفون من أسامة الباز يقرأ له ثلاثة تقارير مهمة وصلت إلى مكتبه تباعاً، الأول من سفير مصر بالكويت يؤكد أن القوات العراقية احتلت فى الساعة الثالثة صباحاً مركزين للشرطة على الحدود الكويتية العراقية، والتقرير الثانى من سفير الكويت بالقاهرة يبلغ الرئيس رسمياً بأن الكويت تتعرض منذ ثلاث ساعات لعمل عسكرى عراقى لم تتضح أبعاده بعد، والثالث كان من المخابرات المصرية يذكر أن المظليين العراقيين احتلوا فى الثالثة والنصف فجراً مطار الكويت الدولى وقاعدة أحمد الجابر الجوية مما يؤكد بداية عملية عسكرية واسعة النطاق، وعندما تلقى مبارك هذه الأنباء كلّف فى صباح اليوم نفسه الفريق يوسف صبرى أبوطالب، وزير الدفاع، ورئيس الأركان صفى الدين أبوشناف، بإعداد تقرير عن الموقف العسكرى وعن الغزو واحتمالات تطوراته وتأثيره على الأمن القومى المصرى، وكان اللواء محمد حسين طنطاوى رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة قد أعد مؤتمراً لعرض الموقف بصورة كاملة وترأس الاجتماع أبوشناف وحضره مجموعة من قادة المخابرات العامة بقيادة عمر سليمان والمخابرات الحربية بقيادة كمال عامر الذى قام بعرض ثلاث خرائط من الحجم الكبير للعراق والكويت ومصر، وحدد عليها بعض التصورات النظرية للموقف، واستمرت الاجتماعات على مدى ثلاثة أيام متتالية وفى النهاية أعلنت عدة تصورات، هى: أن القوات الأمريكية لا يمكنها السكوت أو التغاضى عما يحدث لتأثيره بصورة مباشرة على المصالح الأمريكية التى لديها خطط جاهزة لمواجهة الموقف تصل إلى حد المواجهة الشاملة، خاصة منذ وضعت ما يسمى (عقيدة كارتر) فى عام ٨٠ لحماية مصالحها فى منطقة الخليج.. احتمال قيام إسرائيل بضربة خاطفة للعراق لأن استمرار الحشود العراقية داخل الأراضى الكويتية يمثل خللاً فى توازن منطقة الخليج، الأمر الذى سيؤثر على استقرار المنطقة.. أن هذا الغزو له تأثير مباشر على الأمن القومى المصرى والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام خاصة فيما يتعلق بقناة السويس التى يعبر منها ٥٠٪ من البترول القادم من الخليج وسفن البضائع التى تقدر بـ٢٤٠٤ ملايين طن، هذا بالإضافة لتأثير الغزو على عودة العمالة المصرية التى تقدر بـ١٧٩ ألفاً فى الكويت و٦٠٠ ألف فى العراق و٨٠٠ ألف فى باقى دول الخليج.. وفى يوم ٨ أغسطس وصل ديك تشينى، وزير الدفاع الأمريكى، إلى القاهرة قادماً من السعودية وتوجه تواً إلى الإسكندرية لمقابلة الرئيس مبارك ليبلغه بأنه سيبدأ نقل القوات الأمريكية إلى السعودية خلال أيام، وفى نهاية المقابلة طلب من مبارك الإذن لحاملة الطائرات (أيزنهاور) بالعبور من قناة السويس متجهة إلى الخليج، وعندما سأله مبارك عن التوقيت رد بأنها بدأت التحرك من البحر المتوسط لتصل فى الغد إلى مصر لتعبر أضخم حاملة طائرات أمريكية من القناة، وقبل أن يغادر (تشينى) الإسكندرية ترك مجموعة من صور الأقمار الصناعية عن حشود القوات العراقية تجاه الحدود الكويتية من ١٩ يوليو وحتى أول أغسطس، وتقريراً عن الحشود العراقية التى دخلت بالفعل الأراضى الكويتية...
(يتبع)