بطبيعته وتجربته وتاريخه يميل المصرى إلى العيش فى الأرض السهلة المنبسطة، حيث يجرى النيل ويجلب معه الخصب، وعلى مدار تاريخ المصريين كان الجبل جزءاً مهمَّشاً على خريطة تضاريس الدولة المصرية، يأوى إليه المطاريد والهاربون من الأحكام القضائية وعدد ممن تكونت لديهم رغبة فى الفرار من المجتمع، يضاف إليهم أيضاً المهمَّشون اقتصادياً واجتماعياً الذين وجدوا فى الجبل مأوى لهم، بعد أن بسط المقتدرون نفوذهم على الأراضى السهلة.
خلال العقود الأخيرة زاد حجم وتنوعت الأدوار التى يلعبها الجبل فى حياة المصريين، فلم يعد مجرد مأوى للمطاريد أو المهمَّشين وغيرهم، بل أصبح قِبلة تقتبلها العديد من العناصر التى أعلنت الحرب على المجتمع والدولة فى مصر، المسألة ترتد بجذورها إلى فترة السبعينات، عندما ظهر شكرى مصطفى زعيم جماعة المسلمين -كما كان يطلق عليها أعضاؤها- أو جماعة التكفير والهجرة، كما يصفها الأمن، التكفير مفهوم وهو موجَّه إلى كل مَن يخالفهم فى الرأى، أما الهجرة فكانت تعنى النزوح إلى شعاب الجبال، والاستعداد للمواجهة.
منذ عام 1977 حضر الفكر الجبلى فى مصر بقوة، وأصبح يعمل إلى جوار الفكر الوهابى النفطى. ولا يخفى عليك أن شكرى مصطفى كان من أشد المتحمسين لفكر سيد قطب. وعلاقة المنظومة الفكرية التى أنتجها «قطب» فى كتاب «المعالم» بالفكر الجبلى معلومة بالضرورة، وظهرت فى تأثره البالغ بأفكار أبوالأعلى المودودى (الباكستانى) التى ضمّنها فى كتابه «المصطلحات الأربعة»، وطرح من خلالها مفهومه للجاهلية والحاكمية وغير ذلك من مفاهيم تلقَّفها سيد قطب وتوسَّع فى شرحها فيما كتب.
طرح شكرى مصطفى الفكرة فى مصر، لكن التطبيق الحقيقى لها جاء فى أفغانستان، خلال حقبة الثمانينات حين آوى العديد من أفراد الجماعات الإسلامية إلى جبالها، مدعومين بدول وأنظمة، ومباركة شعبية، لمواجهة الاحتلال السوفيتى لأفغانستان، وكما حملت الحقبة النفطية الأفكار الوهابية الصحراوية إلى مصر، حملت الحقبة «الأفغانية» الأفكار الجبلية إلى مصر، فصعد دور الجبل فى حياة الجماعات، وأصبح أعضاؤها يزاحمون المطاريد والمهمَّشين فيه. وفى هذا السياق ظهر تنظيم «قاعدة الجهاد» الذى أسسه أسامة بن لادن وأيمن الظواهرى، وهو التنظيم الذى أعاد إنتاج نفسه بعد ذلك مع «الدواعش».
الجماعات الإرهابية فى مصر تلجأ إلى الجبال عندما تتاح لها الفرصة، وتتخذ منها قاعدة انطلاق لمهاجمة الدولة والمجتمع، لكنها فى كل الأحوال تفشل، لأن المصريين بطبيعتهم لا يحبون الجبال ولا الجبليين ويمقتون فكرهم وسلوكهم الفج الخشن الذى يتناقض مع الطبيعة المصرية السهلة المنبسطة.
القضاء على دولة الجبل ليس بالأمر السهل ولا اليسير، ومهما وجهت إلى مَن اتخذه موطناً من ضربات فليس من المضمون أن تقضى عليه، لأن الجبل «حالة» وليس مجرد بيئة تضاريسية، حالة معقدة يتداخل فيها الاجتماعى مع الاقتصادى مع الدينى مع القانونى، وأياً كان عدد مَن تقضى عليهم ممن يعيشون فى كهوفه، فإن ذلك لن يمنع من توالد عناصر جديدة تعيد كرة المواجهة مع العائشين والمسيطرين على الأرض السهلة. مواجهة الأسباب لا بد أن تسبق مواجهة الأذناب.