حكايات «الاستقلال التام أو الموت الزؤام» من بحرى إلى الصعيد
مصريون من جميع الفئات خرجوا ضد الاحتلال
اختلفت الأعمار والوظائف والمهن والفئات الاجتماعية والدينية: متعلمون وأميون، أغنياء وفقراء، مسلمون ومسيحيون، رجال ونساء، كبار وصغار سن، لكنهم جميعاً وقفوا تحت راية واحدة هى «مصر»، واتخذوا قبلة واحدة هى «حب الوطن»، ومضوا معاً فى طريق واحد انتهى بهم إلى «الشهادة».
هم أحياء عند ربهم يرزقون، يقدر عددهم بنحو 3 آلاف شهيداً، بحسب ما ذكره مؤرخون، بعضهم من أحياء العاصمة، الفقيرة منها والغنية، وبعضهم من محافظات مصر الممتدة بطول النهر الخالد من الإسكندرية إلى آخر نقطة فى الصعيد، قدموا أرواحهم فداءً لمصر، فعاشت ذكراهم خالدة لا تموت.
«الوطن»، بعد 100 عام على أحداث ثورة 1919، ترصد بعض حكايات «الدم والحرية»، لرجال ونساء عاشوا قبلنا بقرن كامل من الزمن، وطالبوا بـ«الاستقلال التام أو الموت الزؤام» حتى الرمق الأخير من أرواحهم الطاهرة.
«نموت نموت وتحيا مصر»، الهتاف الذى علا سماء القاهرة، وخلّف وراءه أعداداً كبيرة من الشهداء والمصابين، لم يغب أيضاً عن سماء بقية مدن ومحافظات مصر، من الوجه البحرى وصولاً إلى الصعيد.
الإسكندرية، عروس البحر الأبيض المتوسط، ارتوت أرضها بدماء الشهداء مع طلوع شمس الاثنين 17 مارس، خرجت مظاهرة كبيرة ضمت حشوداً من طلبة المدارس الثانوية ومدرسة محمد على الصناعية والمعاهد الدينية، بدأت من ميدان أبى العباس، وتحرك المتظاهرون إلى حى الأنفوشى، وقابلهم جنود الاحتلال بوابل من الرصاص، أدى إلى سقوط 16 شهيداً، و24 مصاباً فى حالات مروعة، فضلاًً عن 415 معتقلاً أغلبهم من الطلبة، وكان أغلب شهداء هذه المظاهرات من الطلبة، إلى جانب عدد واسع من العاملين فى الصيد والبحارة.
وكانت مدينة طنطا بمحافظة الغربية من أولى المدن التى سارعت بإشعال شرارة الثورة بعد انطلاقها من القاهرة.
وشهدت مدينة المنصورة بالدقهلية واحدة من مجازر الاحتلال لإخماد ثورة 19، والتى سقط فيها 19 شهيداً وعدد واسع من المصابين والجرحى، فى 18 مارس، وتنوعت مهن ووظائف شهداء المنصورة، حيث كان من بينهم طلبة ومزارعون وصنايعية وعطارون وأصحاب أعمال حرة فى الحدادة والتشييد والبناء.
ورغم جرائم الاحتلال فى مدن ومحافظات مختلفة، فإن محافظة القليوبية شهدت الحادث الأكثر عنفاً، حيث سقط 5 شهداء بمدينة قليوب فى قذيفة واحدة أطلقتها إحدى طائرات الاحتلال الذى استخدم سلاحه الجوى لإخماد مظاهرات المصريين بالمحافظة، فضلاً عن مقتل 6 شهداء فى مركز طوخ.
وفى مدينة منيا القمح بالشرقية، سقط 150 شهيداً وسط واحدة من أكبر جرائم الاحتلال، وذلك يوم 16 مارس الذى أصبح عيداً قومياً للمدينة، ويقول الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان لـ«الوطن»: حوادث ذلك اليوم فى منيا القمح كانت دموية ورهيبة، فقد حدث أن جماهير المدينة خرجت بأعداد كبيرة تزيد على 5000 متظاهر.
وفى الصعيد، سقط مئات الجرحى والقتلى، لا سيما فى أسيوط التى شهدت انتفاضة كبرى ضد المحتل الإنجليزى، وخرجت مظاهرات فى كل أنحاء المحافظة، وتحولت المظاهرات إلى مواجهات مسلحة بين المواطنين وجنود الاحتلال، وذلك بعد أن سيطر الأهالى على بعض مخازن السلاح للإنجليز، ويؤكد «الدسوقي» مشاركة طائرتين للاحتلال فى قمع الثوار، وأخذتا تلقيان قنابلهما على المدينة والمستشفى بها، إضافة إلى باخرة نيلية فتحت رشاشاتها على المواطنين، ما أدى لاستشهاد وإصابة المئات من أهالى أسيوط.
وفى شمال الصعيد، شهدت الفيوم مجزرة مروعة راح ضحيتها 400 بين شهيد وجريح من الأهالى والبدو الذين سقطوا برصاص الاحتلال فى 19 مارس بعد أيام من اندلاع المظاهرات بالمحافظة.
وعن شهداء وبطولات الصعيد فى هذه الأثناء، يوضح الدسوقي أن التنكيل بالثوار في مدن الصعيد كان أمراً فظيعاً موحشاً، فقد تعدى الإنجليز على الثوار من القتل بالمئات إلى حوادث الاعتداء على الأعراض واغتصاب النساء وقتلهن.
ويشير أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان، إلى أن شهداء ثورة 1919 تصل لنحو ثلاثة آلاف شهيد، وتم رصد بعضها ولم يكن من المستطاع حصر وذكر كل أسماء الشهداء، هذا بخلاف أسماء الذين أعدموا في فصل محاكمات الثورة.