يبدو أن كلمة السر فى مستقبل الطاقة، وربما حاضرها تكمن فى تنوع مصادرها. التاريخ ينبئنا أن الإمعان فى حصر التحالفات السياسية على معسكر دون غيره وقصر التعاون والتبادل والعلاقات على دول دون غيرها يؤدى إلى فقدان الاستقلالية والوقوع فى براثن الاتكال والاعتماد، ومن ثم انهيار سهل أمام أول خلخلة فى توازن هذه التحالفات.
كذلك الحال بالنسبة إلى الطاقة، وما الطاقة إلا شكل من أشكال القوة، وما يخرج به أمثالى من «منتدى الطاقة الذرية» الـ11 «روس أتوم إكسبو 2019» الذى أقيم فى مدينة سوتشى الروسية قبل أيام هو أن التعدد فى مصادر الطاقة يقوى من شأن الدول، ويؤمن شعوبها، ويضمن لها القدر الأكبر من الاستدامة فى التنمية والتصنيع وتحقيق الطفرات الاقتصادية ومن ثم السياسية والاجتماعية المرجوة.
قضايا عدة، واتفاقات كثيرة، ونقاشات متنوعة دارت فى «منتدى الطاقة الذرية»، وبالطبع بزغ الجانب الاقتصادى بشكل واضح، لكن فى الوقت نفسه كشفت الجلسات والنقاشات على الهامش عن قدر بالغ من الاهتمام بسبل إدارة مخاطر المحطات النووية، وإمكانات الشراكات المحلية والدولية، وزوايا معالجة القضايا البيئية فى ضوء ضلوع الطاقة النووية ضمن مصادر الطاقة فى دول عدة، وبالطبع دور الرقمنة فى هذا الشأن والكوادر البشرية ومدى جاهزيتها وأهليتها لإدارة مشروعات الطاقة النووية، وغيرها الكثير من موضوعات النقاش والجدال.
وعلى الرغم من مخاوف طبيعية ومتوقعة عدة تدور فى داخل كل من يقرأ أو يسمع عن محطة طاقة نووية يجرى إنشاؤها هنا أو يعاد تأهيلها للعمل هناك، واستحضار صور عدة لما جرى فى فوكوشيما وما دار فى تشيرنوبل، إلا أن المنطق يشير إلى النظر للمسألة بعين أكثر عمقاً ومنطقاً وعلماً.
ومن باب العلم بالشىء، فإن الدول حين تفاضل بين أنواع الطاقة المختلفة، فهى لا تفاضل من باب العوامل البيئية والشعبية فقط، لكن عوامل اقتصادية وسياسية وأمنية عدة تتداخل وتتدخل فى اتخاذ القرار، وقوع حوادث ناجمة عن أخطاء بشرية أو عوامل طبيعية أمر وارد، ليس فقط فى محطات الطاقة النووية، ولكن فى مواقع آبار البترول ومناجم الفحم ومحطات توليد الطاقة الشمسية وأخرى من الرياح، والآثار السلبية على البيئة الناجمة عن استخدام الوقود الأحفورى، حيث تلوث الماء والهواء والتغير المناخى وغيرها أمر واقع، كذلك اقتصاد الدول يتأثر سلباً وإيجاباً، وأحياناً كارثياً بأسعار النفط والغاز صعوداً وهبوطاً واستقراراً، ولا يخفى على أحد أن العوامل السياسية تلعب دوراً بالغ الحيوية والمركزية فى ملف الطاقة، أى طاقة، حتى وإن ظل الحديث عن أبعاد هذا الدور ومحركاته حبيس الغرف المغلقة وأسير كتب التحليل السياسى التى تظهر بعد عقود من انتهاء الأزمات.
ويخبرنا «منتدى الطاقة الذرية» «روس أتوم إكسبو 2019» أن العقل والمنطق يمليان علينا أن نعتمد تنوع مصادر الطاقة منهجاً من مناهج القرارات والسياسات، وما ضمان أمن الطاقة، وبالتالى أمن الدول وشعوبها ومصيرها ومستقبلها، إلا بتنوع مصادرها وليس الاعتماد على نفط فقط أو غاز وليس غيره أو رياح وشمس أو طاقة نووية حال توافرها، حتى لو كان أى مما سبق متوفراً بغزارة تبدو لا متناهية.
وبينما مصر مقبلة على محطة الطاقة النووية فى الضبعة علينا أن نلم بأبعاد الطاقة ودورها وأهميتها فى بناء الدول (أو هدمها)، والفرق بين الاعتماد على مصدر واحد للطاقة أو مصادر متعددة، ونسب الاعتماد على المصادر المتجددة وغير المتجددة، والنظيفة وغيرها، وذات الكلفة العالية والمتوسطة، بالإضافة إلى الآثار البيئية المتوقعة والفواتير السياسية الظاهر منها والباطن.
وهنا علينا أن نفرق بين الحنجورية والمنطقية، وبين العلم واللاعلم، وبين الحقيقة والخرافة، وبين المعلومة والعاطفة، وبين الممكن واللا ممكن فى أثناء الحوارات المجتمعية والإعلامية والشعبية فيما يختص بالطاقة ومصادرها ومعانيها وما تعنيه بيئياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وعلى المجتمع أن يعى أن خير الأمور الوسط، وأن خير السياسات الاقتصادية والسياسية والبيئية هو التنوع وليس الاعتماد على مصدر واحد فقط، وعلينا أن نعى أن كل مصدر من مصادر الطاقة له إيجابيات ومميزات، وكذلك سلبيات وأضرار، الطاقة النووية مصدر نظيف وكفء للطاقة، وليست لديه أضرار انبعاثات تذكر مقارنة بمصادر الطاقة الأخرى، والطاقة النووية ستظل تسبب جدلاً ومخاوف وقلقاً مع استحضار أحداث مؤسفة جرت، لكن فى الوقت نفسه، فإن مصادر الطاقة الأخرى الكلاسيكية التى نستخدمها تخلف أمراضاً، بعضها قاتل، وأضراراً بعضها غير قابل للتصحيح.
خريطة الطاقة وتوقعاتها المستقبلية فى المنطقة تنبئنا أن الطاقة النووية وتقنياتها وسياساتها ستشهد توسعاً كبيراً خلال العقود الثلاثة المقبلة، وخير لنا أن نكون فى المقدمة، وأن ندرس ونخطط وننفذ وندرب ونؤهل ونحدث ونضع ضوابط وقواعد وننفذها بصرامة الآن وليس غداً، مع الإبقاء على هدف تنوع المصادر وقاية لحياتنا وحفاظاً على أمننا ودفعاً لاقتصادنا وتأميناً لنا ولأبنائنا.