لعلك تلاحظ أن أغلب الأسماء البارزة داخل جماعة الإخوان حالياً، تنتمى إلى طوائف: الأطباء أو المهندسين، أو أساتذة الجامعات. هذا الأمر يعود إلى سنين أعمق من السنين المعيشة اتجهت فيها الجماعة إلى الاحتكام لتصورات مختلفة فى تشكيل تركيبة عضويتها، بحيث يكثر أعضاؤها من أبناء هذه المهن. ولو أنك راجعت التركيبة المهنية لأعضاء الجماعة فى العقود الأولى لنشأتها، فسوف تلاحظ صعوداً واضحاً للعمال والحرفيين، وبعض أصحاب المهن الأخرى، مثل المحامين والعاملين فى سلك القضاء والمعلمين بالمدارس، ولم يكن هناك ظهور واضح للعاملين بمهن الطب أو الهندسة أو التدريس الجامعى، إلا فى حدود ضيقة للغاية. ويبدو أن تحولاً من نوع ما أصاب التركيبة المهنية لأعضاء الجماعة، جعلها تتوجّه نحو المهندسين والأطباء وأساتذة الجامعات بدرجة أكبر، ويكاد هذا التحول يرتبط بعمليات إعادة هيكلة الجماعة التى تمّت بعد خروج الإخوان من السجون على يد الرئيس «السادات»، وتواصلت طوال فترة السبعينات.
قد يبدو أمر الاحتشاد الطبى والهندسى والجامعى بين صفوف الجماعة أمراً إيجابياً فى ظاهره، لكننا لو تأملناه بعمق فسوف ندرك أنه يعبر عن مأساة كبرى. فلو أخذنا الأمور بظاهرها يمكن أن نقول إن الجماعة كانت تنتقى أفضل العناصر، وأكثرها «شطارة» فى الدراسة لتنخرط فى عضويتها، بل تحرض أشبالها على التفوق الدراسى، أما لو أخذنا الأمور بعمق أكثر فسوف نكتشف أن الأكثر تفوقاً فى التعليم، خلال العقود الماضية هو الأقل ذكاءً والأكثر نضوباً على مستوى القدرة على الإبداع والابتكار، مع استثناءات بالطبع تؤكد القاعدة ولا تنفيها، فعلينا أن نعترف بأن التعليم المصرى الجامعى وما قبل الجامعى تعرّض لهزة عنيفة بعد قيام ثورة يوليو 1952، وقد أخذ منحنى التعليم فى الانحدار من أعلى نقطة له فى الستينات، ليسير بشكل حثيث نحو الأدنى فى السبعينات لينكفئ أرضاً بصورة كاملة، بداية من الثمانينات، وما تلاها.
وارتبط التراجع أو الانحدار فى التعليم بجناحيه الجامعى وما قبل الجامعى، بالتركيز على أسلوب التعليب العقلى للدارس من خلال الدروس الخصوصية، والكتب الخارجية، ونسيان المكتبة كوسيلة للتعلم، وارتفاع قيمة الكتاب المقرر على ما عداه، حتى فى الجامعات. والأخطر من كل ذلك أن التفوق أصبح يعتمد على القدرة على الحفظ والاسترجاع، وتراجعت قيمة الفهم، حتى فى الطب والهندسة، وأصبح سباق التفوق سباقاً نحو الحفظ والاسترجاع، ونسخ المسطور فوق صفحات الكتاب المقرر، أو الدرس الخصوصى، أو الكتاب الخارجى، فى ورقة الإجابة، ورغم ما للحفظ من قيمة، إلا أنه إذا افتقر إلى الفهم، فإنه يربّى العقل على الغباء، ويعجزه عن التفكير الحر، القادر على إيجاد حلول مبتكرة للمشكلات.
لقد خدم نظام التعليم طوال العقود الماضية جماعة الإخوان، أيما خدمة، إذ أنشأ العقليات المتعلمة على فكرة «النصية»، وأسقط قيمة الاجتهاد أو المخالفة، فأصبح العقل يسير على قضبان لا يستطيع أن يحيد عنها، وإلا انقلب وتبعثر فى الهواء، لكن من حيث قدّم النظام التعليمى «النصى» خدمة للإخوان، إذ يسّر لها انضمام طوابير من العقول «النصية» التى تتواءم مع المزاج العام لنمط التفكير السائد فيها، إلا أنه ألقى بالعقليات الإخوانية فى أتون محنة كبرى، عندما اعتلوا سدة الحكم بعد ثورة 25 يناير، إذ وجدوا أنفسهم صفر اليدين من أى قدرة على الاجتهاد، أو ابتكار حلول للمشكلات التى واجهتها البلاد، لأنهم ببساطة «حافظين.. لكنهم غير فاهمين»!.