كان الخديو إسماعيل، بلا ريب، صاحب مشروع تحديثى كبير، كلنا يحفظ تفاصيله، لكن ما يهمنا فى هذا السياق الحديث عن الكيفية التى تفاعل بها الخديو مع العقل الأدهمى وكيف سعى إلى تطويره وكيف تعامل «أدهم المصرى» مع سياسات التطوير الخديوية.
بعد أن اتخذ «إسماعيل» قراره بإلغاء نظام السخرة فى التشغيل بادر إلى اتخاذ عدة قرارات أخرى تستهدف نقل «العقل الأدهمى» من «عالم الخرافة» إلى عالم «العلم والحقيقة».
لم يتمتع الوالى الجديد بما تمتع به سلفاه «عباس» و«سعيد» من سعى حثيث نحو إرضاء الرعية الأدهمية بالتقرب إلى أولياء الله الصالحين وتجديد أضرحتهم، بل على العكس تماماً كان يرى أن ممارسات المتصوفة والدراويش تعطل جهوده فى النهوض بالعقل المصرى بالتوسع فى إنشاء المدارس وتعميم التعليم على البنين والبنات، بالإضافة إلى منح الصحافة الأهلية فرصة للظهور والنمو.
واجه «إسماعيل» ممارسات السحر والتنجيم والدروشة السائدة فى الأوساط الأدهمية. وأشد ما كان يزعج الوالى فى هذا السياق عادة يطلق عليها «الدوسة»، وهى طقس صوفى كان يقام فى آخر أيام المولد النبوى، فبعد الوقت الذى يقضيه الدراويش والمريدون فى الذكر والترنح يميناً وشمالاً تثقل رؤوسهم فيتمددون فى الشوارع والأزقة المحيطة بأضرحة الأولياء وكأنهم مجموعة من الخشب المسندة المطروحة أرضاً ليأتى الشيخ الأكبر وقد أسكرته جلالة الذكر على حصان عفى قوى ليمر على الأجساد الملقاة على الأرض، فتسمع طقطقة العظام أسفل الحوافر، ليتهشم من يتهشم ويموت من يموت.
كان الدراويش والمريدون، وهم ينامون على الأرض، مؤمنين بأنه لن يصاب بأذى إلا من قلَّ إيمانه أو ثقلت آثامه.
أراد «إسماعيل» أن يبطل حفلة الدم تلك فووجه برفض عنيف من العلماء والمشايخ، فقد كان أغلبهم يعتقدون أن ما يحدث هو طقس من طقوس الدين، وأن حصان الشيخ لا يهشم إلا عظم من يستحق!.
خطا إسماعيل خطوة أوسع من جده محمد على فلم يكتفِ بتحديث المكان بل حاول أيضاً تحديث عقل «الإنسان الأدهمى» ومواجهة ما عشش فيه من خرافات وأضاليل، لكنه لم يفلح فى ذلك، وأثار حفيظة «الأداهم» ضده واتهموه من جديد بالتفرنج والذوبان فى عشق أوروبا، وأنه مثل الأوروبيين يريد إخراج المصريين من دينهم وطقوس حياتهم. وكان الحزب العباسى، الذى رأى فى عباس الأول نموذجاً مثالياً لوالى مصر، هو أكثر من يغذى نزعة المقاومة داخل العقل الأدهمى.
لم يفلح «إسماعيل» فى إقناع الأداهم بالتخلص من فكرة «الموت التطوعى» فى حفلات «الدوسة»، مثلما لم ينجح فى تخليصهم من السحر والتنجيم. اختلفت بعض الأمور بعد انتشار التعليم فى الأوساط الأدهمية فبدأ بعضهم يراجع ما يسكن عقله من أفكار قاتلة، وتخلص من بعضها، لكن يبقى أن الذكر والسحر والتنجيم لم تزل جزءاً من طقوس قطاع لا بأس به من أبناء المحروسة حتى يوم الناس هذا، وأن «الأداهم» استبدلوا طقس الموت التطوعى عبر حفلات «الدوسة» بطقوس موت تطوعى من نوع آخر.