ولأننا نعيش عصر الكتابات الفيسبوكية المتحولة وثائق وأدلة، وتغريدات تويتر المرتقية لمنزلة التبجيل وأحياناً التقديس، ومجموعات «واتس آب» حيث الهبد بلا حدود والرزع بلا سدود، فقد توقفت عن الدهشة وأقلعت عن الصدمة كلما طالعت هراء مقدماً باعتباره حكماً.
وبعيداً عن أجواء الحرب الضارية التى تشنها دول وجماعات وأفراد على مصر هذه الأيام، وهى الحرب التى لا ينكرها إلا عاجز عن الفهم أو رافض له، فقد فوجئت على إحدى مجموعات «واتس آب» العتيدة التى تجد نفسك عضواً فيها رغماً عن أنفك برسالة على شاكلة ملايين الرسائل التى تجول أرجاء الشبكة العنكبوتية على مدار الـ24 ساعة طيلة أيام الأسبوع السبعة دون هوادة، مذيلة بدعاء أن يحفظ الله مصر، ورجاء إعادة نشرها حتى تعم الفائدة.
والفائدة فى مثل هذه الرسائل أنها تنشط حب البحث والتنقيب التى تعد هواية قبل أن تكون من أساسيات العمل الصحفى. ملخص الرسالة هو أن ضابط مخابرات بريطانياً متقاعداً اسمه داويت يورك قال على قناة «سارومان» الأرضية البريطانية فى البرنامج الشهير «ذو هانج أوفر» الذى تقدمه المذيعة الشهيرة جنيفر تيللى إن (المخابرات البريطانية) خاضت ضد مصر على مدى أعوام طويلة حروباً مخابراتية ضارية جعلتها (المخابرات البريطانية) تذوق الأمرين.. إلخ. وتمضى الرسالة مستفيضة فى الحوار، حيث المذيعة تسأل الضابط: «لكن لماذا مستر يورك؟» إلى آخر الرسالة.
وبعيداً عن حقيقة المؤامرات الفعلية التى تحاك ضد مصر من قبَل جهات عدة، وصمود المصريين على مر العصور أمام العديد من محاولات الإسقاط، إلا أن دقة زر واحدة كفيلة بأن توضح للباحث عن الحقيقة أن هناك شخصين مشهورين بهذا الاسم، أحدهما لاعب كرة قدم معتزل من توباجو ولعب لأندية بريطانية عدة مثل «أستون فيلا ومانشستر وبرمينجهام سيتى» وغيرها.
والآخر موسيقى أمريكى ومؤسس طائفة دينية أطلق عليها اسم «أنصار الله»، ومتهم فى قضايا استغلال جنسى لأطفال واتجار فيهم، بل إنه ادعى أنه كائن فضائى قادم من كوكب مجاور لكوكب الأرض!
أما «سارومان» التى تشير الرسالة إلى أنها قناة بريطانية أرضية، فهى اسم شخصية خيالية جاء ذكرها فى رواية وفيلم «لورد أوف ذز رينجز»!! وهناك قناة على «يوتيوب» تحمل اسم «سارومان» أنشأها شخص ما فى مكان ما ويحمل عليها مقاطع مصورة لقادة صينيين.
ويأتى دور «المذيعة البريطانية الشهيرة» جنيفر تيللى، التى تخبرنا المواقع الموثقة على الإنترنت أنها ممثلة أمريكية ولا علاقة لها بتقديم البرامج التليفزيونية من قريب أو بعيد.
الأدهى من ذلك أن هذه الرسالة مرت بمراحل نشاط ثم بيات متواترة على مدار ما يقرب من أربع سنوات. بمعنى آخر، تظهر هذه الرسالة فى وقت ما، يضعها أحدهم على «فيس بوك» أو فى رسالة على مجموعة «واتس آب»، وذلك بغض النظر عن مصداقية محتواها أو تاريخ كتابتها، تعجب البعض فيعيد تداولها، وتغضب البعض الآخر فيعيد أيضاً تداولها، ولكن كلاً يغنى على توجهاته وقناعاته وانتماءاته، وهلم جرا.
وفى خلال ساعات معدودة، وربما دقائق قليلة، تجد الرسالة نفسها «تريند» ومثاراً للقيل والقال، وموضوعاً للتراشقات والتعاضدات.
الرسالة المشار إليها ليست حالة فريدة أو غريبة. ورغم أن محتواها يفترض أن يكون داعماً لمصر وحامياً للمصريين، فإن الله وحده أعلم بهوية من كتبها. أسماء لا علاقة لها بالمناصب التى نسبها إليها، ومحتوى يبدو سياسياً عميقاً واستراتيجياً حكيماً واستخباراتياً شديداً، لكنه هزل وهراء.
ومن ثم، وبينما الملايين تتبادل الرسائل والمقاطع والتغريدات، ويتم اعتبارها منصة للحروب واستنزافاً للوقت والجهد والصحة، يقبع أحدهم هناك فى مكان ما يضحك ملء شدقيه على ما أثاره ببضع كلمات أو مقاطع بينما يحتسى قهوته ويدخن شيشته.
ومثل هذه الرسائل لا تختلف أبداً عن المتسولين فى الشارع الذين يحكون لك قصصاً وحكايات عن ابنهم القابع فى الحضانة انتظاراً لسداد خمسة آلاف جنيه، وزوجتهم المحجوزة فى المستشفى انتظاراً لألفى جنيه لتغسل كلى، وأمهم التى ماتت وتنتظر ألف جنيه لزوم الكفن. وهى لا تختلف كذلك عن إعلانات الزيوت العطرية مع خلطة الأعشاب الصحراوية لعودة ظهور الشعر وعلاج البهاق والقضاء على البواسير. ربما تحمل قدراً من الحقيقة، لكن التيقن من الحقائق يحتاج بحثاً ونقداً وليس تسليماً وتصديقاً. أما لماذا يحدث كل ذلك؟، فنسأل: «لماذا مستر يورك؟».