سر المكتبة المحترقة في المنصورة.. متطوعون أنقذوا بعض كتبها لمدة 9 سنوات
كتب مكتبة الفاروقية بالمنصورة
بقيت جدرانها ولكن أين ذهبت كتبها، وأين موظفوها ومن كان المسؤول عنها، أسئلة يطرحها أهالي المنصورة كلما مروا على "المكتبة الفاروقية" الملاصقة لمقر الحزب الوطني سابقا، والذي احترق يوم 28 يناير 2011 وتسربت النيران إلى المكتبة التي كانت تحتوي على مخطوطات وأمهات الكتب، فاحترق بعضها وأنقذ الأهالي جزءا منها، بعد أن كانت الملاذ لمثقفي المنصورة.
قال عنها الفيلسوف الراحل أنيس منصور في أحد حواراته "ما زلت أحتفظ في أوراقي بورقة كبيرة كتبها أمين مكتبة المكتبة الفاروقية، مكتوب فيها (لقد قرأ ولدنا أنيس منصور كل ما في هذه المكتبة من كتب وعددها 918 كتابا) وكنت وقتها في الثقافة أي رابعة سنوي".
خرج المتظاهرون بعد صلاة الجمعة من مساجد المنصورة، وكانت وجهتهم جميعا إلي ميدان المحافظة، حاولت قوات الشرطة منعهم لكن لكثر الأعداد لم تتمكن من السيطرة عليها، وصلوا إلى مقر الحزب الوطني فكسروا لافتته ومروا إلى الميدان، حتى جاء صلاة العصر، وما إن بدأ ذلك اليوم في الغروب حتى ظهرت نيران في مقر الحزب الوطني، وتدخلت الشرطة وفضت المظاهرات بالقوة، وفرض حظر التجوال.
تسربت النيرات من الحزب الوطني الذي احترق ولم تتمكن سيارات الإطفاء من الوصول إليه، حتى وصلت إلى المكتبة "الفاروقية"، أكلت النيرات الأبواب الخشبية، ودخل الشباب والصبية إلى المكتبة، وسرعان ما هدأت الشوارع، وفي ذلك الوقت شاهد بعض المثقفين ما حدث للمكتبة، فكانت الصدمة وحاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه منها.
"ظهر في المكتبة في تلك الليلة عدد من أهالي المنصورة، عزة فهمي، وأحمد عزو، والمهندس حسن البدويهي، وعدد من الشباب الذي ساعدنا" هكذا يحكي عبدالحميد أبو العينين، أحد الأهالي، الموقف في تلك الليلة، رغم آثار الحريق في تلك الليلة إلا أن "عزة" استدعته، ولأنهم يسكنون بالقرب من المكان، فحاولوا إنقاذ ما تبقى من الكتب، ونقلوها من داخل المكتبة إلى الرصيف الآخر، واتصلت "عزة" بـ"البدويهي"، والذي حضر بسيارته وأبنائه، وبدأنا ننقل الكتب إلي شقة في بيت "البدويهي" القريب من المكتبة، وحضر "عزو" أيضا بسيارته، الجميع يسارع الوقت لإنقاذ الكتب من الحريق لأننا نعرف قيمتها.
ويضيف أبو العنين، أننا لم نكن أبدا يمكن أن نتواجد في هذا المكان في تلك الليلة العصيبة إلا بعد تواصل "عزة" بالمحافظ في ذلك الوقت "اللواء سمير سلام" والذي أمر الضباط أن يسمحوا لنا بنقل الكتب، وذلك لأنه لا يجرؤ أحد من الموظفين الاقتراب من المكان في ذلك الوقت، ونجحنا في نقل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
"الدنيا كانت مولعة، ونادت لي السيدة عزة، وهي أول واحدة طلبت منا إنقاد الكتب، وبعدها ظهر المهندس حسن البدويهي" هكذا يحكي أحمد عزو، أحد سكان المنطقة، ويتذكر أن "في تلك الليلة أمطار، وبعد أن نقلنا كل الكتب إلى شقة في بيت المهندس حسن البدويهي، كتبنا ورقة ووقعنا عليها جميعا أننا من أنقذنا الكتب ونقلناها لهذا المكان حتى لا يتعرض لأي مشكلة قانونية ويمكن أن يكون المحافظ أيضا وقع على تلك الورقة".
ويتذكر المهندس حسن البدويهي قائلا "إننا استطعنا إنقاذ نسبة 80% من محتويات المكتبة، في تلك الليلة، وعملنا محضر إثبات حالة وبصورة رسمية، لتوثيق عدد الكتب حفاظا عليها والتي تزيد ثمنها عن عشرات الملايين، ومن منطلق الإحساس بقيمة هذه الكتب".
محمد نبيل، مدير العلاقات العامة والإعلام الأسبق لمحافظة الدقهلية، يتذكر ما حدث في تلك الليلة، وقال: "كنا داخل الديوان لا يمكن أحد أن يتحرك من مكان، وحضرت لنا عزة كانت هدومها مبهدلة، من أثر الحريق، وكانت وقت صعب الحركة لأي إنسان في ذلك المكان، لأن فيه حظر تجوال، وتصدت عزة لإنقاذ الكتب بشكل كامل، ولم يكن أمامهم مكان لنقل الكتب إليه فعرض المهندس حسن البدويهي أن ينقلوها عنده فوافقوا بدون تردد خاصة أنها في شقة بالدور الأرضي وبمكان قريب من المكتبة".
ويضيف نبيل، لـ"الوطن": "بعدها حاولوا إرجاع الكتب للمحافظة، إلا أنه لم يتخذ أي مسؤول خطوة إيجابية، لإعادة الكتب للمحافظة، خاصة وأن المكتبة كانت تتبع رئاسة مركز المنصورة، ولم تكن تابعة للثقافة، ومؤخرا تم الإعلان عن تكريم الشخص الذي احتفظ بالكتب في بيته، ولم يتم تكريم باقي الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم في تلك الليلة من أجل الحفاظ عليها".
مرت 9 سنوات على تلك الليلة، حدث خلالها عدة محاولات لإعادة الكتب إلى المحافظة مع المحافظين السابقين، الذين يزيد عددهم عن 5 محافظين متاليين، إلى أن جاء الدكتور أيمن مختار، محافظ الدقهلية، فقرر فور تشكيل لجنة بقيادة منال الغندور السكرتير المساعد، لإعادة الكتب إلى المحافظة، ونقلها إلى "مكتبة مصر العامة" وفرزها، وفي نفس الوقت قرر تكريم المهندس حسن البدويهي وأسرته، لما قدموه من أجل الحفاظ على الكتب طوال تلك الفترة.
وقال محافظ الدقهلية، في تصريح صحفي، إنه تم استعادة أكثر من 2000 كتاب لأمهات الكتب والمخطوطات والوثائق التاريخية على أيدي عائلة المهندس "البدويهي" والذي نجح في إنقاذهم من الاحتراق داخل دار الكتب "المكتبة الفاروقية " بمدينة المنصورة يوم 28 يناير عام 2011، مؤكدا أن هذا الأمر يتطلب منا جميعا أن نحافظ على هذا التراث ونعظم من شأنه حيث تم تكليف مسؤولي مكتبة مصر بعمل ترقيم للكتب وإعادة فهرستها وتصنيفها ويضاف إلى ذلك الإعلان عنها للشباب للاطلاع عليها والاستفادة منها.
ووجه المحافظ الشكر لأسرة المهندس البدويهي على ما بذلوه في الحفاظ على أمانة هذا التراث الثقافي والتاريخي، مشيرا إلى أنهم فخر الدقهلية ولمصر كلها.
وبدورها، قالت الدكتورة رباب عبد المؤمن، مدير عام مكتبة مصر العامة بالمنصورة، إنه في مطلع يناير 2020، شكلنا لجنة لننقذ الكتب وتشكيل لجان لها لإعادة فحص وتصنيف الكتب وبها كتب من آلاف السنين وكتب نادرة وقيمة، وإعادة تجليدها وتعقيمها لأنها تراث، وتوجهنا للمكان ونقلنها للمكتبة لحين الفحص والتعقيم، وذلك تمهيدا لعرضها بعد ذلك في متحف.
وذكرت أنها كتب متنوعة تاريخية وثقافية، ومخطوطات، وتاريخ نابليون وحرب فلسطين، ومراجع علمية وأخرى متنوعة.
"هذه المكتبة هي المصدر الأول لأغلب المثقفين والشعراء" هكذا أكد الشاعر السيد وادي، أحد شعراء الدقهلية، وقال إن هذه المكتبة منها تربى أنيس منصور وعلي محمود طه، وأغلب المفكرين ولدوا في هذه المكتبة، ويجب إعادة تنقية هذه الكتب واختيار الأنسب منها للاحتفاظ به، وبعض الكتب ليس لها قيمة.