يختلف المتخصصون فى دراسة النظم السياسية والدراسات البرلمانية حول الانحياز للبرلمان أو للمجلس النيابى المكون من غرفة واحدة (نظام المجلس الوحيد)، أو المكون من غرفتين (نظام المجلسين). ويطبق نظام المجلسين فى معظم الدول المركبة (الاتحادية أو الفيدرالية)، حيث يمثل أحد المجلسين المواطنين مثل نظرائهم فى الدول الأخرى البسيطة أو الموحدة، بينما يمثل المجلس الآخر أو الغرفة الأخرى الأقاليم أو الولايات أعضاء الاتحاد تمثيلاً متساوياً. ومن ثم، تتفاوت أعداد ممثلى الأقاليم أو الولايات أعضاء الدولة الاتحادية فى المجلس الأول أو فى الغرفة الأولى، وفقاً لعدد السكان، حيث يكون للولايات الكبيرة أعداد أكبر من النواب، بينما يتضاءل العدد فى الولايات الصغيرة. وفى المجلس الآخر أو فى الغرفة الأخرى، تكون للولايات أو الأقاليم أعضاء الدولة الاتحادية، بغض النظر عن عدد سكان كل ولاية، نفس العدد من المشرّعين، رغبة فى تحقيق المساواة بين الولايات أو الأقاليم أعضاء الاتحاد.
ويعتبر النظام السياسى الأمريكى المثال الأكثر وضوحاً لهذا النمط، حيث يتكون مجلس النواب (مجلس الشعب الأمريكى الواحد أو الأمة الأمريكية الموحدة) من عدد من النواب يتفاوت بين الولايات الكبرى والمتوسطة والصغيرة؛ بينما يتكون مجلس الشيوخ (مجلس الولايات أعضاء الدولة الفيدرالية) من مائة عضو، حيث تمثل كل ولاية من الولايات الخمسين بعضوين فى مجلس الشيوخ، حيث تتساوى أصغر الولايات مع أكبرها. ويشارك المجلسان معاً فى صنع القوانين أو سَنّ التشريعات، حيث يجب موافقة كل مجلس على حدة على جميع التشريعات فى الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يصدر القانون إذا وافق عليه أحد المجلسين ورفضه المجلس الآخر.
ولا ينتشر نظام المجلسين فى الدول البسيطة أو الموحدة، لانتفاء المبرر السابق الإشارة إليه لوجود الغرفتين؛ بيد أن البعض يؤيد فكرة وجود المجلسين حتى فى الدول البسيطة، حتى تتاح الفرصة لتمثيل الكفاءات التى قد لا تتاح لها فرصة الفوز بالمقاعد النيابية فى المجلس الوحيد، والتى لا تقدم عادة على الترشح فى الانتخابات، ولإعطاء الفرصة لمراجعة ودراسة مشروعات القوانين من قبل تلك الكفاءات، بعيداً عن الأهواء الحزبية. ولذلك، عادة ما تختلف الشروط الواجب توافرها فى المرشح لذلك المجلس الآخر (مجلس الكفاءات) عن نظيرتها فى المجلس الأول. وعادة ما يتم تعيين نسبة من أعضاء الغرفة الأخرى ممن تتوافر فيهم نفس الشروط المطلوب توافرها فى الأعضاء المنتخبين.
وقد عرفت مصر منذ تأسيس أول مجلس نيابى فى عهد الخديو إسماعيل عام 1866م، نمط المجلس الوحيد، ونمط المجلس التشريعى المكون من غرفتين فى صيغته المثالية، بمعنى تمتع كلتا الغرفتين بسلطات متساوية فى صنع القوانين؛ ونمط المجلس المكون من غرفتين مع قصر دور الغرفة الأخرى على مناقشة موضوعات محددة، وجعل رأيها استشارياً. وقد كان كل من دستورى 1923 و1930 مثالاً واضحاً على تبنى نمط الغرفتين فى صيغته المثالية، واقترب منهما كل من دستور عام 1971 بعد تعديلات عام 2007، ودستور عام 2012؛ فى حين كانت لائحة 1882 ودساتير 1956 و1958 و1971 حتى تعديله عام 1980، مثالاً على تبنى نمط المجلس النيابى أو البرلمان المكون من غرفة واحدة؛ بينما جاء نمط الغرفتين مع محدودية اختصاصات الغرفة الثانية فى كل من دستور 1971 بين عامى 1980 و2007، والدستور الحالى بدءًا من العام 2020. لقد عرفت مصر الحياة النيابية بدءًا من عام 1866 بمجلس وحيد هو مجلس شورى النواب، والذى تحول إلى مجلس للنواب عام 1882 ذى اختصاصات واسعة تم وأدها مع الاحتلال البريطانى لمصر، ليتم تطبيق نظام مجلسين باختصاصات محدودة هما مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، ثم تمت العودة إلى نظام المجلس الوحيد عام 1913 باسم الجمعية التشريعية. وبعد استقلال مصر رسمياً عام 1922، تبنى دستور 1923 نمط المجلسين: مجلس الشيوخ ومجلس النواب، ولم يتغير الحال فى دستور 1930 الذى حل محل دستور 1923 لأقل من خمس سنوات، وعاد بعدها دستور 1923 والذى استمر العمل به حتى إلغائه بعد ثورة يوليو 1952.
وسارت دساتير الجمهورية على نهج المجلس الوحيد الذى سمى مجلس الأمة فى دساتير 1956 و1958 (دستور الجمهورية العربية المتحدة بعد الوحدة المصرية السورية)، و1964 (بعد الانفصال السورى)، ومجلس الشعب فى دستور 1971. ثم عادت مصر إلى تبنى نظام المجلسين عام 1980 مع تعديل دستور 1971 والذى نص على إنشاء مجلس محدود الاختصاصات سمى مجلس الشورى إلى جانب مجلس الشعب؛ وزيدت اختصاصات مجلس الشورى مع تعديلات عام 2007، ليصبح مشاركاً فى صنع عدد من القوانين، واستمر النهج نفسه فى دستور 2012. وتمت العودة إلى نمط المجلس الوحيد فى التعديلات الدستورية التى أجريت عام 2014 على دستور 2012.
وكان دستور 1923 المثال الأكثر وضوحاً على تبنى نمط المجلس النيابى أو البرلمان المكون من غرفتين، حيث نص صراحة على أن البرلمان يتكون من مجلسين هما مجلس الشيوخ ومجلس النواب. وبينما كان مجلس النواب منتخباً بالكامل، نص الدستور على انتخاب ثلاثة أخماس مجلس الشيوخ، مع منح الملك حق تعيين خُمسَى أعضاء المجلس. وبينما كان الحد الأدنى لعمر عضو مجلس النواب ثلاثين عاماً، كان الحد الأدنى لعمر عضو مجلس الشيوخ أربعين عاماً. واشترط الدستور المزيد من الشروط لعضوية مجلس الشيوخ (مجلس الكفاءات) انتخاباً أو تعييناً، حيث قصر عضوية مجلس الشيوخ على فئات محددة تم ذكرها حصراً فى الدستور. تمثلت هذه الفئات فى الوزراء، والممثلين السياسيين، ورؤساء مجالس النواب، ووكلاء الوزارات، ورؤساء ومستشارى محاكم الاستئناف أو أية محكمة أخرى من درجتها أو أعلى منها، والنواب العموميين، ونقباء المحامين، وموظفى الحكومة من درجة مدير عام فصاعداً، وكبار العلماء، والرؤساء الروحيين، وكبار الضباط المتقاعدين من رتبة لواء فصاعداً، والنواب الذين قضوا مدتين فى النيابة، والملّاك الذين يؤدون ضريبة لا تقل عن مائة وخمسين جنيهاً مصرياً فى العام، ومن لا يقل دخلهم السنوى عن ألف وخمسمائة جنيه من المشتغلين بالأعمال المالية أو التجارية أو الصناعية أو بالمهن الحرة.
ومنح كل من الملك والمجلسين حق اقتراح القوانين، باستثناء إنشاء الضرائب أو زيادتها الذى كان للملك ولمجلس النواب. وكان من الضرورى موافقة أغلبية أعضاء كل من المجلسين على حدة على أى مشروع قانون قبل إحالته إلى الملك لإصداره. وفى حالة الاختلاف بين المجلسين، يجتمعان فى هيئة مؤتمر (أى أعضاء البرلمان بغرفتيه) برئاسة رئيس مجلس الشيوخ (المجلس الأعلى) للتصويت على مشروع القانون. وكانت الوزارة مسئولة أمام مجلس النواب الذى كان له الحق، دون مجلس الشيوخ، فى سحب الثقة من أحد الوزراء أو من الوزارة ككل.
وأعاد تعديل دستور 1971 عام 1980، وللمرة الأولى منذ عام 1952، إنشاء مجلس آخر إلى جانب مجلس الشعب، سمى مجلس الشورى، وتركزت مهمته فى دراسة واقتراح ما يراه كفيلاً بالحفاظ على مبادئ ثورتى 23 يوليو 1952 و15 مايو 1971، ودعم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى، وحماية تحالف قوى الشعب العاملة والمكاسب الاشتراكية، والمقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا والحقوق والحريات العامة والواجبات، وتعميق النظام الاشتراكى الديمقراطى وتوسيع مجالاته. وتم توزيع مقاعده بين انتخاب ثلثى الأعضاء وقيام رئيس الجمهورية بتعيين الثلث الباقى.
بيد أن اختصاصات مجلس الشورى المستحدث عام 1980 ظلت محدودة، حيث اقتصرت على أخذ رأيه، وليس موافقته، فى الاقتراحات الخاصة بتعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور، ومشروعات القوانين المكملة للدستور، ومشروع الخطة العامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومعاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التى يترتب عليها تعديل أراضى الدولة أو التى تتعلق بحقوق السيادة، ومشروعات القوانين التى يحيلها إليه رئيس الجمهورية، وما يحيله رئيس الجمهورية إلى المجلس من موضوعات تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها فى الشئون العربية أو الخارجية. ونص التعديل على قيام مجلس الشورى بإبلاغ رأيه فى هذه الأمور إلى رئيس الجمهورية ومجلس الشعب. ومن ثم، ظل دور مجلس الشورى محدوداً منذ نشأته وحتى تعديلات عام 2007، حيث لم يكن مشاركاً فى التشريع أو فى صنع القوانين، حيث استمر مجلس الشعب يحتكر سلطة التشريع. أكثر من هذا، ظل رأى مجلس الشورى فى جميع الموضوعات المحددة المحالة إليه استشارياً.
وشهدت اختصاصات مجلس الشورى نقلة نوعية مع تعديلات عام 2007، والتى جعلت مجلس الشورى شريكاً فى صنع عدد من القوانين مع مجلس الشعب. وبالرغم من استمرار النص على تولى مجلس الشعب سلطة التشريع، وإقرار السياسة العامة للدولة، والخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والموازنة العامة للدولة، وممارسة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية؛ مُنح مجلس الشورى اختصاصاً تشريعياً أكثر اتساعاً. واستمر النص الخاص باختصاص مجلس الشورى بدراسة واقتراح ما يراه كفيلاً بدعم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى، وحماية المقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا والحقوق والحريات والواجبات العامة. بيد أن التعديل قد جعل موافقة مجلس الشورى واجبة على كل من الاقتراحات الخاصة بتعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور، ومشروعات القوانين المكملة للدستور (وقد تم التوسع فى تحديد المقصود بذلك حيث شمل ما نصت عليه ثلاثة وثلاثون مادة من مواد الدستور)، ومعاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التى يترتب عليها تعديل فى أراضى الدولة أو التى تتعلق بحقوق السيادة. واستمر رأى مجلس الشورى استشارياً فيما يتعلق بمشروع الخطة العامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومشروعات القوانين التى يحيلها إليه رئيس الجمهورية، وما يحيله رئيس الجمهورية إلى المجلس من موضوعات تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها فى الشئون العربية أو الخارجية، ويبلغ المجلس رأيه فى هذه الأمور إلى رئيس الجمهورية ومجلس الشعب.
وللمرة الأولى منذ إلغاء دستور 1923، تم الحديث عن احتمال اختلاف الرأى بين المجلسين، الشعب والشورى، حول الموضوعات التى تجب موافقة مجلس الشورى عليها، إلى جانب مجلس الشعب، وعلى احتمال اجتماع غرفتى البرلمان فى جلسة مشتركة. حيث نص الدستور على تشكيل لجنة مشتركة من المجلسين لاقتراح نص للأحكام محل الخلاف. ويتم عرض النص المقترح من اللجنة المشتركة على كل من المجلسين، فإذا لم يوافق أى منهما على النص، عُرض على المجلسين فى اجتماع مشترك برئاسة رئيس مجلس الشعب (وليس مجلس الشورى)، وإذا لم تصل اللجنة إلى اتفاق على نص موحد، كان للمجلسين فى اجتماعهما المشترك أن يوافقا على النص الذى وافق عليه أى منهما. كان هذا النص الدليل الأكثر وضوحاً على اقتراب مصر من تبنى نمط البرلمان المكون من غرفتين، وإن لم تصل إلى المدى الذى كان قائماً إبان فترة دستور 1923. وقد تبنى دستور 2012 نمطاً شبيهاً بما ورد فى دستور 1971 المعدل عام 2007؛ بيد أن لجنة الخمسين التى أنيط بها تعديل دستور 2012، أقدمت على الإلغاء الكامل للغرفة الثانية والاكتفاء بمجلس نيابى وحيد هو مجلس النواب.
وعندما طُرحت فكرة إعادة الغرفة الثانية خلال مناقشة التعديلات الدستورية عام 2019، ارتأت الأغلبية إعادة الغرفة الأخرى من البرلمان بالمسمى الذى ورد فى دستورى العهد الملكى (دستورا 1923 و1930)، مع تبنى مضمون الاختصاصات الاستشارية التى عُهد بها إلى مجلس الشورى عند بداية إنشائه عام 1980. فقد تم النص على أخذ رأى مجلس الشيوخ فى موضوعات محددة هى تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور، ومشروع الخطة العامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومعاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التى تتعلق بحقوق السيادة، ومشروعات القوانين ومشروعات القوانين المكملة للدستور التى تحال إليه من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب، وما يحيله إليه رئيس الجمهورية من موضوعات تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها العامة فى الشئون العربية والخارجية. ويبلغ المجلس رأيه فى هذه الأمور إلى رئيس الجمهورية ومجلس النواب. وتم الحفاظ على توزيع الأعضاء بين نسبة الثلثين بالانتخاب والثلث بالتعيين من قبل رئيس الجمهورية.
ومن ثم، عاد مجلس الشيوخ باختصاصات محدودة، حيث يؤخذ رأيه الاستشارى غير الملزم فى موضوعات محددة، الأمر الذى يرى معه معظم المتخصصين فى دراسات النظم السياسية والدراسات البرلمانية أن النظام السياسى المصرى لا يزال يتبنى نمط البرلمان ذى الغرفة الواحدة، وأن تبنى نمط البرلمان ذى الغرفتين يتطلب -كما رأى البعض عند مناقشة التعديلات الدستورية عام 2019، وكانت هذه وجهة نظر كاتب هذه السطور - منح مجلس الشيوخ الحق فى الموافقة على جميع مشروعات القوانين، إلى جانب مجلس النواب، مع قصر مسئولية الوزارة والوزراء أمام المجلس المنتخب (مجلس النواب).
وبالرغم من محدودية اختصاصات مجلس الشيوخ، ومن جعل رأيه استشارياً، يحدونا الأمل فى أن يتمكن المجلس المستحدث من خلال اضطلاعه بمهامه المنوطة به على أكمل وجه، أن يتطور نحو غرفة أخرى للبرلمان المصرى تحظى بحق الموافقة على جميع مشروعات القوانين، مثلما كان الحال فى مجلس الشيوخ فى دستورىْ 1923 و1930، واتساقاً مع الغاية الرئيسية من وجود غرفة أخرى للبرلمان فى الدول البسيطة مثل جمهورية مصر العربية.