لا أحد يستطيع أن ينكر أن مصر ورثت تركة رهيبة على كل المستويات.. وخصوصاً تركة التخريب المتعمد لشركات قطاع الأعمال العام، وهو التخريب الذى بدأ منذ عقود طويلة وتصاعد فى ظل حكومة عاطف عبيد رئيس وزراء مصر الأسبق (من أكتوبر 1999 حتى يوليو 2004)، وقد ظهر هذا الرجل الغامض فى المشهد السياسى المصرى فى وقت مبكر جداً، وارتبط ظهوره وصعوده بميلاد ظاهرتين متناقضتين جداً فى أداء الإدارة المصرية، هما: ظاهرة تنامى دور أساتذة إدارة الأعمال فى الحياة العامة وامتلاء الصحف والمجلات المتخصصة بموضوعات ودراسات تدور كلها حول مصطلح «التنمية الإدارية».. أما الظاهرة الثانية التى ارتبطت به ارتباطاً جذرياً فهى انتشار الفساد فى كل مفاصل العمل والإدارة، وتراجع دور مصانع وشركات القطاع العام فى الإنتاج، وانهيار فكرة التخطيط العام على كل المستويات، باعتبار التخطيط فكرة شيوعية فاشلة تجاوزها الزمن، وكانت سبباً فى انهيار الاتحاد السوفيتى السابق وإفقار دول الكتلة الشرقية!.
ولعل الدكتور عاطف عبيد، أستاذ إدارة الأعمال بتجارة القاهرة، كان هو المسئول الوحيد فى تاريخ مصر الذى تولى عدة مسئوليات فى توقيت واحد قبل أن يصبح وزيراً وبعد أن أصبح وزيراً، فقد عاد الرجل من بعثته التعليمية فى أمريكا حاملاً الدكتوراه فى إدارة الأعمال من جامعة إلينوى عام 1962، ليعمل مستشاراً فى أربع وزارات مرة واحدة، هى الكهرباء والصناعة والتعليم والإسكان، ثم أصبح رئيساً لمجلس إدارة المركز الدولى لإدارة الأعمال فى الفترة من 1973 حتى 1984، ومستشاراً لمنظمة العمل الدولية لتطوير الإدارة فى قبرص (انهارت قبرص اقتصادياً فى هذه الفترة!)، وفى عام 1984 تشكلت وزارة جديدة جاء فيها عاطف عبيد وزيراً لشئون مجلس الوزراء ووزيراً للتنمية الإدارية معاً، وفى عام 1993 جمع «عبيد» بين 3 حقائب وزارية هى قطاع الأعمال العام والبيئة والتنمية الإدارية، وأثناء ذلك أصبح عضواً مهماً فى اللجنة الاقتصادية التى كانت تعمل تحت إشراف صندوق النقد الدولى والبنك الدولى للإنشاء والتعمير لوضع خطة جذرية للإصلاح الاقتصادى فى مصر، وهى الخطة التى تأكد للجميع بعد ذلك أنها كانت قائمة على تصفية شركات القطاع العام وبيعها فى أسواق النخاسة، وفتح الاقتصاد المصرى بكامله أمام قراصنة الأسواق المالية الناشئة والشركات متعددة الجنسية، وآنذاك تسربت الكثير من المعلومات حول التنافس الضارى بين عاطف عبيد وزميله كمال الجنزورى لخلافة الدكتور عاطف صدقى رئيس الوزراء، والمذهل حقاً أن هذا التنافس جرت معظم أحداثه ومؤامراته على أرض غير مصرية، فقد ظل كل منهما يخاطب جهات دولية ويقدم نفسه باعتباره القادر على حسم مصير شركات القطاع العام وتصفيتها، وقد حدثت هذه المخاطبات من خلف ظهر رئيس الوزراء نفسه، ومن خلف ظهر الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك!.
ويعرف كل من كان قريب الصلة بدوائر ودهاليز الحكومات المصرية، أن قرار إسناد رئاسة الوزارة للجنزورى كان بمثابة كارثة سقطت على رأس عاطف عبيد، ويقال إن «الجنزورى» بذل المستحيل لاستبعاد «عبيد» تماماً من وزارة 1997 ولكنه لم يستطع، فقد كان الأخير مسنوداً من هيئات دولية تعرف أن دوره الحاسم فى التخسير والتخريب والتصفية يقتضى الحفاظ عليه فى قمة المشهد السياسى المصرى، ولكن الجنزورى العنيد نجح فى النهاية فى تقليم أظافر «عبيد» مؤقتاً، فجرده من مناصبه الوزارية الثلاثة وأسند إليه وزارة واحدة فقط هى «التخطيط» بعد أن انحدرت من وزارة شديدة الأهمية لا غنى عنها، إلى مجرد حقيبة بلا أدنى قيمة لأن مهمة التخطيط انتقلت آنذاك إلى جهات دولية، وتحولت الوزارات إلى جهات إدارية لا عمل لها غير تنفيذ ما تريده الجهات الدولية!.
وخلال السنوات الثلاث (1996-1999) التى تولى فيها «عبيد» وزارة التخطيط، نجح «الجنزورى» فى تحييد دور الوزارة تماماً، وأصبحت العداوة بينه وبين «عبيد» والخوف من علاقاته الوطيدة مع الجهات الدولية، أهم عشرات المرات من كل ما كان يقال عن التخطيط والتنمية الإدارية والإصلاح الاقتصادى، وكانت شركات قطاع الأعمال تواصل الانهيار والألغام التى زرعها «عبيد» فى هذه الشركات أثناء توليه حقيبة قطاع الأعمال تواصل عملها فى التخسير والتخريب. وقد حدث بعد ذلك ما توقعه «الجنزورى»، فقد أطاح به «عبيد» بطريقة دراماتيكية، ورغم كل ما قيل عن أسباب الإطاحة بالجنزورى، فقد ظلت هناك نقاط شديدة الغموض هى وحدها التى تفسر سر الكراهية الشديدة بين مبارك والجنزورى، ولكننى اطلعت على جانب منها يشير إلى دور حاسم لعاطف عبيد فى هذه الكراهية التى أدت إلى فرض حصار مطبق على «الجنزورى» وإلزامه بعدم الظهور أو الحديث، وهو ما نفذه الرجل فعلاً وظل مختفياً حتى حررته ثورة 25 يناير 2011!
من أكتوبر 1999 حتى يوليو 2004 قامت حكومة عاطف عبيد بإنجاز المهمة قبل الأخيرة فى دفن عشرات الصروح الصناعية والاقتصادية العملاقة المملوكة للقطاع العام.. جاء الرجل برؤساء مجالس إدارات بلا ضمير ولا كفاءة وكلفهم بتنفيذ توصيات الجهات والمكاتب الدولية التى دمرت عصب هذه الصروح وقضت على آلاف الكفاءات المصرية من رجال الصناعة بالخروج المبكر إلى المعاش والهجرة إلى الخارج أو الالتحاق بوظائف مجزية مادياً فى الشركات الأجنبية التى توافدت على مصر. وما زلت أتذكر الكثيرين من رؤساء مجالس إدارات بعض الشركات التى كنت أتابع أداءها، ولم تزايلنى حتى الآن الحسرة من تدنى مستواهم المهنى والأخلاقى وقدرتهم المخيفة على الكذب والمغالطات، وفُجرهم فى تلويث سمعة كل من يجرؤ على انتقادهم.
بعد خروج عاطف عبيد من الوزارة إلى رئاسة «المصرف العربى الدولى»، رفعت هيئة الرقابة الإدارية تقريراً شهيراً إلى رئيس الجمهورية عن تزايد معدلات الفساد فى عهد وزارته إلى مستويات رهيبة، وصلت إلى 100 مليار جنيه خلال العام الأخير من رئاسته للوزارة، كما وصل حجم الرشاوى التى تقاضاها مسئولون كبار فى حكومته إلى أكثر من 500 مليون جنيه فى عام واحد أيضاً!. وعلى امتداد السنوات التالية بعد 2004، أصبحت أخبار الفساد وانهيار وخسائر شركات القطاع العام واحتجاجات العمال المتواصلة فوق قدرة الصحف والفضائيات على متابعتها.
وجاء اليوم الذى اهتديت فيه إلى فكرة ما زلت أراها صالحة جداً لمعرفة أهم أسرار تخريب مصر وإفقارها ونهب مواردها، وقد نشأت الفكرة من ملاحظة مدهشة تكررت كثيراً معى، وهى أن معظم رؤساء مجالس إدارات الشركات القابضة، ورؤساء شركات قطاع الأعمال العام، التى انهارت تماماً، أصبحوا فى لمح البصر وخلال سنوات قليلة من الأثرياء ثراء فاحشاً.. وبدا الأمر وكأن هناك علاقة عجيبة بين فقر ودمار الشركة وثراء رئيسها فى نفس الوقت!.
والآن، وقد صحونا على تصفية أيقونة الصناعة المصرية الثقيلة خلال النصف الأخير من القرن العشرين، وهى شركة الحديد والصلب المصرية، يبدو لى أننا فى أشد الاحتياج إلى تحقيقات ودراسات استقصائية تتعقب مصائر الشركات العملاقة التى انهارت وتحولت إلى خرائب، مقترنة بأحوال الثراء الفاحش الذى طرأ على «العصابات» التى تولت إدارة هذه الشركات أثناء دفعها إلى منحدر السقوط.. وإنى لعلَى يقين كامل بأن هذا الاستقصاء سيكون درساً عظيماً نتعلم منه معرفة الأدوات التى حققت هذا التخريب.. ومعرفة المكافآت التى تقاضاها البعض لإنجاز هذا التخريب!.