تبقى العدالة الاجتماعية مطلباً إنسانياً عالمياً وهدفاً أسمى تسعى من أجله كل الشعوب، وهو ما دعا العالم إلى أن يحتفل فى العشرين من فبراير من كل عام باليوم العالمى للعدالة الاجتماعية، وذلك بناء على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر فى نوفمبر 2007، الذى جاء تنفيذاً لتوصية من منظمة العمل الدولية وإعلانها بشأن العدالة الاجتماعية من أجل عولمة عادلة؛ ولكن من الواضح أن هناك خلطاً ما بين مفهوم العدالة والمساواة -خاصة لدينا كمصريين- حيث ما زال البعض يطالب بالمساواة بين الناجح والفاشل، وبين المخلص فى عمله والمستهتر؛ فالعدالة الاجتماعية هى بالمعنى الصحيح المساواة فى الحقوق والواجبات أمام القانون، وتكافؤ الفرص بدون تمييز لأى سبب، وليس المقصود منها العدالة فى الملاءة المالية بين الأفراد، وتطبيق العدالة المالية بهذا المعنى ما هى إلا عدالة اجتماعية ظالمة.
فبعد زيادة الأعباء الضريبية بصورة غير مسبوقة على كاهل أعضاء منظومة الاقتصاد الرسمى، وبعد انفجار الأسعار التى أصابتنا جميعاً شظاياها، أصبح السكوت جريمة فى حق أبنائنا، وباختصار -ودون مجاملة- فإننى كدافع للضرائب لم أعد أتحمل أن يُستقطَع المزيد من دخلى لإعطائه لمن يعيشون عالة على جهد غيرهم دون جد أو تعب من أبناء بلدى!!!!!
فلماذا أتحمّل من قوت أبنائى كل الدعم الموجَّه للتعليم الجامعى غير المطلوب أساساً فى سوق العمل، حيث بلغت قيمته فى الموازنة ٥٠ مليار جنيه، ولماذا لا يوجه الدعم للتعليم الفنى!! وهل من العدالة أن تدعم الدولة طالباً راسباً فى كلية نظرية بينما يعانى زميله المتفوق فى كلية عملية من نقص الإمكانيات؟ ولماذا أتحمل من ضرائبى مرتبات موظفين فى بعض الجهات الحكومية بينما أُقَابَل من أكثرهم بسوء الاستقبال وسوء المعاملة بل بطلب صريح أو مقنَّع للرشوة لتقديم الخدمة المستحقة، أو مرتب موظف فاشل فى إحدى المؤسسات الخاسرة فى الوقت الذى يهاجم هو نفسه الدولة ويطالب بصرف الأرباح السنوية الوهمية من قوت أبنائنا؟ وكل ذلك فى ظل غياب غير مفهوم للرقابة ولقانون الخدمة المدنية الذى لم نر له أى كرامات حتى الآن. ولماذا أتحمل من ضرائبى تكلفة إعاشة عشرات الآلاف من المسجونين فى الوقت الذى اتجه فيه العالم للإسورة الإلكترونية توفيراً للنفقات؟ ولماذا أتحمل من رزقى ورزق أبنائى ضرائب تكلفة نظافة الشوارع والميادين بينما يلقى المستهترون بالقاذورات لغياب الردع القانونى العام؟ ولماذا أتحمل من ضرائبى قيمة الدعم التموينى والخبز لأسرة قرر ربها أن ينجب ١٠ أطفال لأن (العيال عزوة والعيل يأتى برزقه)؟ وماذا اقترفنا من أخطاء كأبناء للطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة لكى نتحمل أعباء مواطن بلطجى كسول يرفض قبول أى وظيفة جادة فى مصنع اعتماداً على حصول أحد أفراد أسرته على معاش تكافل وكرامة، كما يحصل هو على ٣٦٠ رغيف خبز أسبوعياً، وأقصى نشاط يمارسه هو قيادة توك توك غير مرخص مع التوجه لشراء المخدرات يومياً؟
أعلم أن أعباء الدولة ثقيلة وكنت وسأظل داعماً لكل ما فيه الخير لبلادنا التى أُنهكت اقتصادياً واجتماعياً لأسباب كثيرة داخلية وخارجية، أهمها تزايد الإنفاق العام بمعدلات أعلى من الزيادة فى الإيرادات العامة، وبالتالى هناك ضرورة لخفض الإنفاق العام حتى نتمكن من إعادة التوازن المالى للموازنة، ولكن الخلط ما بين العدالة الحقيقية والمساواة الزائفة أصبح أمراً مثيراً للاستفزاز خاصة لأبناء الطبقة المتوسطة الذين تحملوا مؤخراً الكثير من أعباء الإصلاح الاقتصادى، ولديهم الاستعداد لتحمل المزيد شريطة تطبيق العدالة بإرساء مبدأ الثواب والعقاب وعدم المساواة بين الجاد الملتزم فى عمله والمقصر، وبين الناجح والفاشل، والبحث عن أهل الخبرة والأمانة والعلم وتقديمهم على أهل الثقة والوصوليين المنافقين مدعى العلم والأخلاق.
ومن هذا المنطلق يجب عدم الخلط بين الدعم والدور الاجتماعى للدولة، انطلاقاً من أن التخفيف من الفقر لا يقتصر على مجرد توفير آلية لمساعدة الفقراء على تخطى حدود معينة من الدخل أو الاستهلاك، بل يشمل رفع الإنتاجية بصورة مستمرة وإشراك الفقراء فى عملية التنمية، والتركيز على إكسابهم المهارات والقدرات اللازمة للحصول على الكسب الجيد للخروج من دائرة الفقر، وبذلك يكون نمواً موالياً للفقراء وموسعاً لقدرتهم وفرصهم وخيارات حياتهم ويراعى البعد الاجتماعى جنباً إلى جنب مع البعد الاقتصادى، ولا تصبح التنمية محصورة فقط فى كثرة الضرائب التى تفرض على أصحاب الدخل المتوسط أو الأغنياء، أو تقديم خدمات اجتماعية معينة أو مجرد برامج للحماية الاجتماعية، وإنما تنمية ثقافة العمل ودحر ثقافة التسول والتنبلة؛ ومكافأة المجتهد والملتزم وعقاب الفاشل والمستهتر، وهو ما يتطلب رؤية تنموية متكاملة من منظور شامل وواسع يأخذ بعين الاعتبار علاج الاختلالات الهيكلية فى الاقتصاد القومى ويدفع عجلة التنمية إلى الأمام.
وأدعو القيادة السياسية إلى أن تنظر إلى العدالة الاجتماعية بكل أبعادها حتى لا تنقلب إلى طغيان اجتماعى.