السفر فى زمن كورونا صادم. هو صادم لأنه يؤكد لك أن عالمك الذى كنت تعرفه تغيّر بالفعل. صحيح أن أغلبنا يعرف ذلك بعد مرور ما يزيد على عام من حياتنا فى كنف الوباء، لكن يظل هناك شعور، أو ربما أمل ما، بأن ما نحن فيه ربما يكون غمة محدودة وتزول. لكن حين ترى بعينيك أن الغمة ممتدة ومتوغلة ومتغولة وملقية بظلالها على كل كبيرة وصغيرة فى الكوكب، فإنك تشعر بأنك حقاً ودّعت حياتك التى كنت تعرفها إلى غير رجعة.
الطائرة إلى واشنطن مريحة، لكن أفراد الطاقم ضاعت معالمهم تماماً تحت المعاطف البلاستيكية البيضاء والكمامات. والمسافرون والمسافرات باتوا نسخاً مستنسخة من بعضهم البعض، حيث وجوه الجميع مختبئة خلف الكمامات على مدار ساعات الرحلة الـ12. صحيح أن ساعة نداء البطون تزاح الكمامات لعملية تناول الطعام، إلا أنها لم تعد العملية التى يجد فيها المسافر نفسه يأكل بهدوء وهو يتصفح قائمة الأفلام المتاحة على شاشته أو وهو يستمع إلى موسيقاه المفضلة وهو يفكر هل يمتثل لنداء المضيف: «تى» (شاى) أم «كوفى» (قهوة)؟!
فكرة وجودك فى مكان مغلق لساعات طويلة وملاصق لعشرات آخرين تجعل ارتداء الكمامة قراراً شخصياً وإرادة نابعة عن قناعة. يسعل أحد الركاب، فتسود لحظة رعب بين الجميع وتكاد تلاحظ كتماً لا إرادياً للأنفاس خوفاً من أن تكون هذه السعلة هى الحاملة للفيروس اللعين. يعطس آخر، فيرمقه الجميع بغضب وفزع.. فالعمر ليس «بعزقة».
وبمناسبة البعزقة، فعلينا أن نذكر للفيروس ما له وما عليه. فرغم أنه عصف بحياتنا أدراج الرياح ويقف للعام الثانى على التوالى وهو يُخرج لنا لسانه ليخبرنا بأنه باقٍ معنا لحين إشعار آخر، خارباً ما يود خرابه ومداهماً من يفكر فى مداهمته، إلا أنه نجح فى وضع حد للبعزقة الاستسهالية. هذا الشره غير المبرر للشراء ما إن تطأ أقدامنا أرض الفرنجة لا يعود موجوداً. والأسباب كثيرة، فالتمويل المتاح للشراء تقلص، والنفس المتوفرة للإنفاق لم تعد موجودة، وطول فترة العزل والإغلاق والعمل من المنزل أعاد للبيجاما هيبتها وللشبشب كرامته. ولماذا نستمر فى تخمة الدولاب بملابس لم نعد نحتاج إليها ولم تعد تحتاجنا بينما عجلة العمل تسير بالبيجاما والشبشب؟!
لكن ما زالت هالة الحزن والأسى تهيمن على الطائرة والمسافرين والطاقم. حتى أمريكا فى زمن كورونا لم تعد أمريكا فى زمن ما قبل كورونا. ورغم انتهاء إجراءات الإغلاق والحظر وغيرها، فإن حظراً على المشاعر يهيمن على العاصمة. الأماكن التى كانت تعج بالسياح والزوار على مدار الـ24 ساعة أصبحت شبه خاوية. حتى الزوار -وأغلبهم من المواطنين والمقيمين- على رؤوسهم الطير.
المراكز التجارية أعادت فتح أبوابها، وتحاول محلاتها أن تعوّض خسائرها المادية خلال أشهر الإغلاق. لكن يظل الكثير منها مغلقاً أو معروضاً للبيع أو للإيجار. وحين ترى موقع محل شهير أغلق أبوابه وتحوّل إلى قاعة مفتوحة للتطعيم ضد «كوفيد-19»، فإنك تعلم أن الوباء يؤكد عليك المعلومة السابقة «لقد غيّرت العالم ولم أعده إلى ما كان عليه».
ما كان عليه العالم قبل كورونا -حلوه ومره- ذهب إلى غير رجعة. لدينا أمل بالطبع أن نعود إلى ممارسة الحياة بشكل طبيعى نسبياً، لكننا نعلم علم اليقين أن الشهيق والزفير لم يعودا من الأمور المفروغ منها والتى لا نتوقف عندها كثيراً. كل شهيق وكل زفير صارا عملية محاطة بالمخاطر. علمنا كورونا أن كل نفس نتنفسه هو منحة ونعمة. إنه الفيروس الذى له ما له وعليه ما عليه.