لم يستطِع الشعب المصرى أن يواجه الهزيمة فى يونيو 1967 ويحقق النصر فى 1973، إلا بعد أن فهم الحقيقة على الأرض، وأدرك حجم الكارثة التى حاقت به، بعيداً عما ظل يسمعه من أكاذيب فى الأيام الأولى للواقعة.
كان الببغاء الإعلامى يصرخ بأننا فى الطريق إلى تل أبيب فى حين كانت قوات العدو الإسرائيلى تجتاح غزة فى طريقها إلى سيناء، يقتلون ويأسرون جنودنا البواسل الذين تم الدفع بهم إلى الصحراء ثم صدرت إليهم الأوامر بالانسحاب.
لم يكن الكذب مقصوراً على الببغاء الإعلامى فقط، بل تجاوزه إلى الاتحاد الاشتراكى -التنظيم السياسى الأوحد حينذاك- والذى كان كبار كهنته يهونون من شأن ما حدث من احتلال للأرض، ويرددون كلاماً عجيباً يثير الدهشة والرثاء، ويؤكد لك أن الهزيمة كانت نتيجة طبيعية لتسليم زمام الأمور إلى مثل هذه العقليات.
يلمّح الراحل الكبير «فتحى غانم» فى رواية زينب والعرش إلى أن من بين ما كان يقال للشباب فى هذه الاجتماعات أن ما حدث لمصر فى 1967 لا يزيد على حال شخص دهسه «تروماى» فأفقده إحدى ذراعيه.. لكنه نجا.. أليس ذلك أفضل من أن يفقد حياته؟
أقوال من هذا القبيل كانت تتردد فى محاولة للتعمية على حقيقة ما حصل، لكن ذلك لم يفرق مع المصريين شيئاً لما علموا الحقيقة من أولادهم الذين عادوا إليهم بعد الانسحاب، وحين سمعوا قصص الأسرى من شبابهم الذين يعانون الأمرّين فى «عتليت».
فرضت الحقيقة نفسها على الناس، وأدركوا تفاصيل ما حدث، فاستحالت حالة التهوين التى قابلوا بها الحدث خلال الأيام الأولى إلى إحساس مرير بالخديعة، وتحول رضاؤهم ودفاعهم عن استمرار الوضع على ما هو عليه إلى سخط وغضب طال كل شىء، ولم ينجُ أحد لحظتها من سلاحهم التاريخى فى مواجهة المحن، سلاح «النكات».
لم يعد أحد يصدق الببغاء الإعلامى، حتى فى الحالات التى كان يتجرأ فيها ويذكر الحقيقة، فقد أصبح التشكيك فى كل شىء وفى أى شىء «سيد الموقف». ومن عاصر نصر أكتوبر 1973 يعلم أن الكثيرين تشككوا فى البيانات الأولى التى استمعوا إليها عبر الراديو أو التليفزيون، وقالوا إن الحكومة تكذب كعادتها، ولم يتأكدوا من حقيقة النصر إلا عندما عاد أبناؤهم، وسمعوا منهم حقيقة ما حدث، أو من خلال الاستماع إلى أدوات إعلامية خارجية أكدت نجاح المصريين فى العبور.
لم يكن من صالح السلطة فى ذلك الوقت أن تكذب أو تخدع، بل يمكن القول إنها خسرت كثيراً حين سلكت هذا المسلك، ولم يكن أدل على ذلك من المظاهرات العارمة التى واجه بها الشباب والعمال الأحكام الهينة التى تقررت على المسئولين عن النكسة، فى انتفاضة 1968، يومها لم تستثن هتافات الغضب أحداً من رموز السلطة، بمن فيهم جمال عبدالناصر نفسه الذى حمّله الجميع المسئولية عما حدث.
يحفظ أغلبنا المثل الشعبى الذى يقول «الكدب مالوش رجلين».. فأى كذبة مهما تضخمت وتورمت تنهار وتضمحل أمام حقيقة صغيرة تفرض نفسها على الواقع.