لم يكن محمد على، ذلك الألبانى الشاب، يقصد أن يصنع نهضة حضارية كبرى فى تلك البلاد التى قدم إليها ضمن جنود الدولة العثمانية لقمعها فى الأساس، ولكنه رأى فيها طيراً يمكن أن يبيض له بيضاً من ذهب، فقرر أن يستولى عليه لنفسه، ولكن بعد أن يوفر لهذا الطير سبل الإعاشة الجيدة، والطعام الشهى، حتى يتمكن من إنتاج البيض الذهبى الذى يريده.
كان محمد على باشا - صاحب أكبر نهضة مصرية فى التاريخ الحديث- يدرك جيداً أن أمامه الكثير من العمل حتى يجعل مصر بلداً غنياً، ليتمكن بعدها من «حلب» خيراتها لنفسه ولأولاده من بعده.
لم يلتفت أحد لما فعله محمد على فى السنوات الأولى من حكمه لمصر، لم يستوعب أحد كيف تمت تنمية هذا الوادى الطيب فى أعوام قليلة، لتصبح مصر من أكبر الدول فى المنطقة كلها. كان محمد على هو الحاكم الوحيد الذى استوعب أن تنمية الموارد الاقتصادية تبدأ بتنمية الموارد البشرية أولاً، حتى يستمر الحصول على بيض الذهب، فبدأ نهضة تعليمية كبيرة، وصاحبها بنهضة صحية أكبر، فكان أول من أنشأ مستشفى فى مصر بمعناها الحرفى، فضلاً عن إرسال العديد من البعثات التعليمية لدول أوروبا. وعلى الرغم من أن محمد على لم يكن مصرياً فإنه قدم لمصر ما لم يقدمه كل من حكمها منذ عصره وحتى الآن، فقد قدم لها دولة حديثة قوية بالمعنى الحرفى للكلمة، نهضة صحية وتعليمية هائلة، أدت بالتبعية إلى جيش قوى، واقتصاد أقوى.
لقد حاول عبدالناصر أن يحذو حذوه، ولكنه فقد كثيراً من المعطيات التى كانت ضرورية لبناء الدولة العصرية التى كان يحلم بها، فقد حاول تطوير التعليم والصحة، ولكن من خلال نظام اشتراكى صارم، انخفض فيه سقف الحريات لدرجة جعلت كثيراً من المصريين يحجمون عن مساعدته فيما كان يقوم به، لم يحاول من حكم مصر منذ عهد عبدالناصر وحتى الآن أن ينجح فيما فشل فيه ناصر، بل لم يعترفوا بفشله من الأساس، فكان سقف طموحهم أن يصلوا إلى ما وصل إليه هو شخصياً فقط، وهو ما لا يكفى لقيام الدولة التى نحلم بها. والواقع أن المقدمات دائماً هى ما تؤدى إلى النتائج، ولهذا فإن الإحجام عن فتح ملفات التعليم والصحة وتنمية الموارد البشرية، بل وهيكلة الداخلية أيضاً، هى ما يجعل التوقعات لنتائج أفضل لنظام الحكم الحالى ليست جيدة بنسبة كبيرة، ويجعل الإحباط يصيب الكثيرين. لا شك أن المشروعات الكبرى التى تتبناها الدولة فى هذه الأيام كمشروع قناة السويس الجديدة لهى مشروعات عظيمة والعائد المتوقع منها -طبقا للدراسات الاقتصادية- يمكن أن يرفع سقف الموارد القومية إلى آفاق جديدة، ولكن البدء فى مثل هذه المشروعات دون النظر إلى البنية التحتية وتنمية الموارد البشرية، كإصلاح التعليم والمنظومة الصحية، يجعل النتيجة النهائية ليست على المستوى المطلوب، والسكوت عن هذه الملفات دون حتى التلميح بوضع جداول زمنية لإصلاحها يزيد من الإحباط للكثيرين الذين يرون فى السيد الرئيس هو الأمل المتبقى لكى تصبح مصر «قد الدنيا» بحسب قوله. ينبغى على الحكومة أن تضع خطتها للنهوض بمنظومات الصحة والتعليم المتهالكة بالتزامن مع مشروعاتها الاقتصادية، حتى تحقق تلك المشاريع المرجو منها على المدى البعيد.