شهيد «أنشاص الرمل».. مات قبل انتهاء خدمته العسكرية بـ6 أشهر فقط
عشرات النسوة المتشحات بالسواد يتربعن على حصيرة بلاستيكية، لا يتوقفن عن الصراخ والعويل، أمام منزل متواضع، لأسرة رضا إبراهيم، المجند الشهيد، بقرية أنشاص الرمل بالشرقية، الذى توفى إثر انقلاب سيارة الأمن المركزى بشمال سيناء، فيما كان مقررا أن ينهى خدمته العسكرية بعد 6 أشهر فقط، ويعود لقريته للزواج، لكن القدر اختار له مصيرا آخر.[Image_2]
يتصاعد صوت الصراخ الممزوج بالبكاء وتزداد الحسرة المتبوعة بآهات الألم من آن لآخر مع قدوم أو انصراف بعض النسوة المواسيات لـ«أم رضا» وبناتها الخمس فى مصيبتهم.
يختلف أفراد الأسرة الفقيرة فى رواية موت واحد منهم، تتفق الشقيقات الخمس على استشهاد شقيقهن الأوسط، منهن من ترى أنه مات فى عمل إرهابى، وأخرى ترى موته قضاء الله ونفذ فى حادث أليم، وبدموعها المنهمرة تؤكد شقيقته الكبرى «سماح» أن أخاها لم يمت فى حادثة قضاء وقدر وإنما قتله غدر الإرهاب فى سيناء، وتتبع كلمتها بـ«حسبنا الله ونعم الوكيل»، بينما شقيقتها «هبة» ترى الأمور بصورة أكثر بساطة، تخلو من نظرية المؤامرة، مؤكدة أن شقيقها مات فى حادثة انقلاب سيارة، على عكس والدته السيدة الخمسينية التى لا تهمها طريقة وفاته بقدر حزنها على فقدان ابنها: «هو راح وخلاص»، تصمت لبرهة تنهيها ببكاء ممزوج بآخر كلمات قالها لها ابنها منذ 34 يوما، على حد تقديرها، قبل سفره الأخير إلى سيناء: «هاجى المرة الجاية تكونى اخترتى لى عروسة»، تتبعها بوصف حال ابنها بأنه «شقيان» طول عمره، حتى أثناء الخدمة العسكرية كان يعمل خلال إجازته التى لا تستغرق أكثر من 10 أيام فى أعمال المحارة وتشوين مواد البناء، ليساعدنى فى مصروف البيت وعلاج والده المريض.
تعود الأم الملكومة بذاكرتها إلى عشرات السنين التى مضت، وتتذكر حياتها، قائلة: «تزوجت أباه وكان مريضا بالصرع، وعلاجه الوحيد كان عن طريق جلسات كهرباء يأخذها بصفة دورية كل أسبوع وأحيانا مرتين فى الشهر حسب حالته المرضية، وربنا رزقنا بـ10 أبناء: 5 شباب و5 بنات، كنت بتاجر فى كل حاجة، خضار وفاكهة وحبوب، علشان نقدر نربيهم ونصرف عليهم».
الأولاد الخمسة، كما تقول الأم، كانوا يشاركونها المسئولية بالعمل منذ نعومة أظافرهم، وأسهموا فى علاج والدهم ومصروف البيت، حتى زوّجتهم كلهم، باستثناء «رضا»؛ فهو «الوحيد اللى كان عايش معانا وكنت لسه بشوف له عروسة، لكنه راح لربنا أحسن مننا كلنا»، وتنهى كلامها قائلة: «مفيش حد بيهرب من نصيبه، وربنا حكم علينا بكده والحمد الله على كل حال».
«حسن»، الشقيق الأكبر للمجند الشهيد، غير مقتنع بالرواية الرسمية عن استشهاد شقيقه وباقى زملائه، إثر حادث سير، ويرجح أن الحادث مدبَّر وبفعل فاعل، وتساءل: «كيف يركب كل هذا العدد من الجنود فى سيارة واحدة؟ ولماذا لم تنشر وسائل الإعلام أى صور حقيقية للحادث؟»، مضيفا أن «رضا كان فى عز شبابه، ولم يتمكن من استكمال تعليمه بسبب الظروف المادية الصعبة للأسرة، واكتفى بشهادة الإعدادية لكى يساعد فى مصروف البيت وعلاج والده المريض، كان يعمل باليومية سواء فى أعمال المحارة أو تشوين مواد البناء».
خبر استشهاد «رضا» علمت به الأسرة من خلال خفير نقطة الشرطة، الذى ذهب إلى بيت المجند الشهيد، ليسأل: «عندكم ابن فى الجيش فى سيناء؟»، فردت الأم: «أيوه، رضا ابنى فى الأمن المركزى فى سيناء وأجازته بعد بكرة، لو عايز منه حاجة هيكون موجود على يوم الثلاثاء أو الأربعاء»، هنا لم يستطع الخفير أن يخبر «أم رضا» أن ابنها تُوفى، فى حادث انقلاب سيارة الجنود برفح، خوفا عليها من الصدمة، وطلب منها رقم هاتف أحد أبنائها، ليقطع الحوار بينهما وصول أحد أبنائها ليتلقى صدمة الخبر، ويخبره الخفير أن جثمانه سوف يصل خلال ساعات، وقبل أن يستوعب أفراد الأسرة خبر الوفاة كان الجثمان قد وصل إليهم بالفعل، بصحبة مأمور قسم بلبيس، ليعلو صوت الصراخ والعويل فى ليلة لم تكن أكثر سوادا عليهم من المصيبة التى ألمت بهم، وقبل أن تنصرف القوة الأمنية طلب مأمور القسم منهم معرفة موعد دفن الجثمان، لكى يُنقل إلى مثواه الأخير فى جنازة عسكرية، وهو ما حدث فى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالى.
الحاج إبراهيم، والد المجند الشهيد، رجل ستينى نحيف الجسد يظهر أثر المرض على وجهه الشاحب وعينيه اللتين يكسوهما لون الدم، لم يستطع التماسك أثناء تلقيه العزاء من أهالى القرية، تساقطت دموعه المصحوبة بآهات حزينة، مكتفيا بقوله: «كان فاضل لرضا 6 شهور ويخلص جيشه ويتجوز، عليك العوض ومنك العوض يا رب».