ليست المرة الأولى التى يتم فيها الاعتداء على طبيب فى أحد أقسام الطوارئ بمستشفى حكومى.. ولا أعتقد أنها ستكون الأخيرة بكل تأكيد.. هى حالة تنضم إلى هذا المسلسل المستمر فى العرض عبر سنوات سابقة طالما أن أحداً لم ينتبه إلى خطورته حتى الآن..!
هذه المرة تحدث الأزمة بين طبيب شاب بمستشفى القطامية وبين طالب جامعى حضر إلى طوارئ المستشفى مرافقاً لطفلة تعانى من جرح بالقدم إثر تعرضها لحادث سير.. ولسبب لا يعرفه أحد يتخيل الطالب الجامعى أن الطبيب يتعمّد إهمال المريضة «الطفلة»... ليتطور الأمر إلى مشاجرة تنتهى بأن يصاب الطبيب بكسر بالجمجمة واشتباه بارتجاج فى المخ.. ويتحول هو نفسه إلى مريض يحتاج إلى طبيب لإسعافه!
لم أتمكن طوال حياتى المهنية من الوصول إلى السبب الحقيقى لحالة التربص الموجودة بشكل شبه مستمر ضد الأطباء، خاصة فى أقسام الطوارئ بالمستشفيات الحكومية.. ربما هو انخفاض الوعى لدى المواطن بدور تلك الأقسام ونظام العمل بها.. أو ربما حالة فقدان الثقة الموروثة من عقود سابقة بوجود أى درجة من الجودة أو الإتقان فى كل ما هو مجانى أو حكومى.. كل ما تمكنت من رصده هو أن الأمر لا يتعلق باعتياد الطبيب أن يهمل فى عمله أو حتى باعتياد المريض العدوانية بأى حال!
الأزمة الحقيقية أن البعض ما زال يظن أنه لن يحصل على حقه إلا «بواسطة ما» فى هذا الوطن.. ولذا تجد أن سوء النية المسبق ومن ثم الاحتقان هو سيد الموقف من اللحظة الأولى.. «لن يهتم أحد بى وبحالتى بكل تأكيد طالما لا أعرف أحداً فى هذا المستشفى بشكل شخصى.. إذن فلأعبّر عن غضبى لأحصل على الخدمة».. هكذا يحدّث المريض نفسه.. وهكذا تبدأ الأزمة فى رأيى!
ربما يتوقف الأمر عندما يستوعب المريض أن نظام العمل فى طوارئ المستشفيات على مستوى العالم وليس مصر وحدها يقوم بتصنيف الحالات إلى عالية الخطورة ومتوسطة وعادية.. وأن متوسط فترة الانتظار فى أقسام الطوارئ فى ألمانيا يتراوح بين أربع إلى ست ساعات حتى يتمكن المريض من رؤية الطبيب.. تزداد لتصل إلى ثمانى ساعات فى بريطانيا التى تعانى من عجز فى أطباء الطوارئ.. وفى هذه الأثناء يتم عمل الإسعافات الأولية له من قبَل هيئة التمريض..!
ربما تتوقف تلك الاعتداءات حين يدرك المرضى أن الطبيب الموجود فى أقسام الطوارئ لا يغادر المستشفى بالأيام وربما بالأسابيع فى المعتاد.. ولا يتمكن من النوم أكثر من دقائق قليلة فى كل يوم بسبب العجز فى عدد الأطباء الذى تعانى منه المنظومة الصحية منذ فترة.. والذى يزداد كل يوم بسبب ما يحدث!
ربما تهدأ الأمور حين يصل إلى قناعة الناس أنه لا يوجد طبيب على ظهر هذا الكوكب يمكن أن يهمل أو يتقاعس فى إنقاذ حياة شخص مهما حدث.. وأن أمتع لحظات حياته هى تلك اللحظة التى ينجح فيها فى أن يخفف ألماً أو ينقذ حياة.. وهى اللحظة التى ينسى فيها كل ما يعانيه من إرهاق وتعب!
ربما حين يستوعب المرضى كل ما سبق.. يتوقف هذا المسلسل السخيف.. ويدرك الجميع أن أحداً لن «يتقاعس» عن عمل يمكنه أن ينقذ به حياة أحدهم مهما كلفه الأمر.
وحتى يحدث ذلك.. تبقى التوعية المجتمعية والتثقيف الصحى هما السبيل الوحيد وحجر الأساس الحقيقى.. ويظل القانون الذى ينبغى أن يتم تطبيقه بصرامة وحزم هو الحاكم الوحيد والفيصل بين كل الأطراف.. أو هكذا أعتقد!