لم يكن سيادة القاضى الذى أصدر حكمه التاريخى منذ بضعة أيام يحتاج إلى كل تلك المقدمة الطويلة.. ولا لكل تلك الصفحات ليكتب حكمه الذى أصدره ببراءة مبارك والذين معه من كل القضايا التى تم اتهامهم فيها.. فالأمر كان محسوماً منذ البداية.. فالقضايا كلها لم تكن محكومة الأدلة.. والكل كان يعرف الحكم مسبقاً.. ولكنه فقط كان الأمل الذى بقى.. أن يحاسب قاضى الأرض من أجرم.. قبل أن يحاسبه قاضى السماء.. والواقع أن سيادة القاضى لم يخطئ.. فقد حكم بما وصل إليه من أوراق.. التى خلت من أى أدلة حقيقية للاتهام أو الإدانة.. لقد استحوذت تلك القضية على اهتمام المصريين كلهم منذ أن بدأت.. وتوالت عليها الجلسات والمرافعات.. وتحولت من محاكمة لقتل المتظاهرين.. إلى محاكمة لعصر كامل.. محاكمة للفساد والاستبداد.. محاكمة لبطش وظلم قامت به الداخلية عبر أعوام طويلة.. ونسى الجميع أن القاضى لا يحكم بدوافع الثورة التى وضعت هؤلاء المتهمين فى قفص الاتهام.. وإنما يحكم بما لديه من أوراق.. وهى تخلو من أى دليل على المتهمين.. فحصلوا على براءة هم أول من يعلمون أنهم لا يستحقونها.. فلم يكن الأمر يحتاج لقاعة محاكمة أو محامين أو نيابة.. ليتم الحكم على هذا النظام.. فالثورة لا تنجح بحكم المحكمة.. والقاضى لا يصدر أحكاماً بالنوايا.. المشكلة أن الأمر قد يختلط على الأجيال المقبلة.. فحكم البراءة الذى حصل عليه رموز النظام السابق قد يطرح سؤالاً أبدياً لن يجد إجابة فى كتب التاريخ.. فإذا كان مبارك ومن معه أبرياء من دم من ماتوا -بحسب الأوراق فقط- فهل هم أبرياء من إفساد عصر كامل؟
لقد أفسد مبارك والذين معه الحياة السياسية والاجتماعية فى البلاد لأعوام طويلة.. وامتدت يد الداخلية لتبطش بمعارضيه دون أن يعترضها أحد.. فإذا لم تحمل ملفات قضية القرن -التى أصر سيادة القاضى على أن نراها- ما يدل على أنهم قتلوا شهداءنا.. فالأدلة على فسادهم وإفسادهم لا تحتاج إلى برهان!
إن سيادة القاضى لم يصدر حكمه بالبراءة لمبارك ومن معه.. وإنما أصدر حكماً بإحالة القضية برمتها إلى دائرة أخرى.. دائرة لا تحتاج إلى أوراق أو شهود.. لقد أحال قاضى الأرض الحكم إلى قاضى السماوات والأرض.. ولسوف يقتص للشهداء بكل تأكيد.. بل سيقتص لوطن كامل!
لعل ثورة يناير تبكى شهداءها الآن الذين لم تنجح دماؤهم فى تحقيق أهدافها.. فقد أصبح الأمر واقعاً.. ولكنها نجحت فى أن ترسى قاعدة لما بعدها.. وهى أن المحاكم الطبيعية لن تحكم بقانون الثورة.. وإنما ستحكم بقانون يحتاج إلى أدلة وبراهين موثقة.. وهو ما تفتقده كل الثورات.. فالثورة وإن قامت على مبارك واحد وأسقطته.. فإنها قد تركت «مبارك آخر» يجمع الأدلة.. و«مبارك ثالث» يقدم الأوراق.. فتركنا «مبارك».. ليحتكم إلى مبارك!!
إن اليأس الذى دب فى نفوس الكثيرين ينبغى ألا يعيق محاولات الإصلاح التى ندعو إليها.. والكبوة التى لم تقتلنا ينبغى أن تزيدنا قوة.. فمبارك كان رمزاً للفساد.. ولكن ينبغى ألا ننسى.. أن للفساد رموزاً كثيرة.. وأن براءة مبارك ومن معه لن تكون ذريعة لعودتهم لتصدر المشهد السياسى.. وأن من ماتوا كانوا يحلمون بحال أفضل.. وأن الأمل باق ما دام فى الصدور قلوب تنبض.
يوماً ما سيعود إلى ذلك الميدان الفسيح من ثاروا ليحتفلوا بانتصارهم على الطغيان والفساد.. يوماً ما سينزل إلى التحرير شرفاء ليحققوا ما حلمنا به.. يوماً ما ستنتصر الثورة.. ولن تسمح لأحد أن يقفز عليها.. يوماً ما ستحقق الثورة أهدافها.. فقط.. ليس اليوم!