التحفز المصحوب بالحذر هو سيد الموقف الآن بين قوات الاحتلال الإسرائيلى والفلسطينيين، كلا الطرفين يحاول شد الحبل بكامل عنفوانه، فمن ينجح فى جذبه لصالحه؟ إسرائيل تمعن فى الاستفزاز إذا كان الأمر يتعلق بالقدس، وعلى حكومتها تقع المسئولية الكاملة عن التصعيد الذى سيفجر الأوضاع، تجاوز المتطرفون بتهور وبشكل غير مسئول كل الخطوط الحمراء من خلال التهديد بنسف قبة الصخرة المشرفة، وإصرار الاحتلال على مواصلة الاعتداءات على الأماكن المقدسة سواء فى القدس أو الخليل، وسياسة الاقتحامات والقتل اليومى لشباب فلسطين. فهى تسهل للمستوطنين كل ما هو استفزازى؛ من اقتحام المسجد الأقصى بشكل متكرر فى حماية الشرطة الإسرائيلية، والسماح لليمين المتطرف بمسيرة الأعلام من البلدة القديمة فى القدس، وهى تعلم يقيناً أنها لن تمر بسهولة، وموافقة المحكمة الإسرائيلية العليا على دخول اليمينى المتطرف «إيتمار بن غفير» المسجد الأقصى عنوة، كل ذلك لا يقود إلا إلى العنف والمزيد من التوتر. المثير أن حكومة إسرائيل تسارع بتقديم نفسها للمجتمع الدولى على أنها الضحية والمعتدى عليها! لتبرر عدوانها وانتهاكاتها للمقدسات الفلسطينية. هذا العام تأتى مسيرة الأعلام مرة أخرى وسط توترات متصاعدة بين إسرائيل والفلسطينيين، منذ 22 مارس الماضى، بعد سلسلة من الهجمات على المدن الإسرائيلية، التى أسفرت عن مقتل 19 إسرائيلياً فى أسوأ فترة عنف تشهدها الأراضى المحتلة خارج إطار الحرب منذ سنوات، وفى الوقت ذاته خلفت العمليات الأمنية الإسرائيلية المضادة فى الضفة الغربية أكثر من 30 شهيداً فلسطينياً. وجاء استشهاد مراسلة قناة الجزيرة، الصحفية شيرين أبوعاقلة، ليصب الزيت على النار، ويزيد من اشتعال الأوضاع المتوترة أصلاً، فقد أصاب مقتل «شيرين» الفلسطينيين بكل أطيافهم السياسية والحزبية بالصدمة والحزن والغضب، وازداد الأمر سوءاً خلال تشييع جنازتها واعتداء الشرطة الإسرائيلية على المشيعين فى الجنازة ومحاولة منعهم من الوصول إلى مرقدها الأخير، بما يمثل ذلك من ضغط وقهر لكل المعانى الإنسانية. لقد كان قرار وزير الأمن الداخلى متوقعاً فى ظل الوضع السياسى الإسرائيلى الداخلى، وأى قرار آخر كان سيفسر على أنه خضوع، ويشهد عاصفة شديدة من الإدانة والتهديد من اليمين المتطرف، خاصة مع تصاعد الضغوط من قبَل الجمهور اليمينى على أحزابه، وفى ظل وجود حكومة ائتلاف هشة مهددة بالحل فى كل لحظة، وأفضل الطرق لتعزيز وجودها وتثبيته هو شن الحرب على الفلسطينيين، مثلما كان يفعل بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء السابق، عندما يشعر بأن منصبه فى خطر وحكومته مهددة بالانهيار، فإسرائيل دأبت على تصدير أزماتها الداخلية دائماً إلى الخارج.
يبدو أن ذاكرة إسرائيل مثل ذاكرة السمك. فالحرب الخامسة التى شنتها على قطاع غزة فى شهر مايو من العام الماضى لم تحط أوزارها بعد، والأسباب التى فجرت الأوضاع هى نفس الأسباب التى تحاول تفجيرها الآن، فقد انطلقت شرارة البدء للحرب الخامسة من حى الشيخ جراح ومسيرة الأعلام الاستفزازية التى نفذها المستوطنون رغم التحذير وتصاعد حالة الاستنفار الميدانى فى صفوف المقاومة الفلسطينية، وهى تكرر نفس الأخطاء المتعمدة. حالة من الاستنفار والحذر تسود الأراضى الفلسطينية، وحركات المقاومة والفصائل على أهبة الاستعداد، قطاع غزة يترقب يوم الأحد المقبل، وماذا ينتظره إذا خرجت الأمور عن السيطرة، هل ستكون هناك حرب جديدة؟ وما الخطط التى تجهزها إسرائيل هذه المرة؟ لقد مارست فى الحرب الخامسة كل أساليب القمع واستخدمت كل الأسلحة المحرمة دولياً، وهدمت الأبراج والمنازل على سكانها، وتجاوزت فى عدوانها كل المحاذير الدولية، ارتكبت جرائم حرب واضحة لا تحتاج إلى دليل ولا تشكيل لجان دولية لتقصى الحقائق، ورغم ذلك أفلتت من العقاب، ولم يجرؤ أحد على محاسبتها، فطالما كانت الطفل المدلل للإدارة الأمريكية. إن حالة الاحتقان الفلسطينى لها ما يبررها، إذ يرى الفلسطينيون والعديد من الإسرائيليين أن هذا الاحتفال عمل استفزازى من قبَل الجماعات القومية وحركات الاستيطان المتشددة، حيث يحاولون المرور عبر الحى الإسلامى فى البلدة القديمة انطلاقاً من باب العمود وصولاً إلى حائط البراق، أقدس المواقع لدى اليهود، حيث يجتمع المشاركون فى نهاية المسيرة، وعندما وافقت الحكومة الإسرائيلية على تنظيم المسيرة التى يقودها اثنان من أعضاء الكنيست من اليمين الصهيونى المتشدد تركت موضوع مسارها للاتفاق بين الشرطة والمنظمين، وأثار ذلك حنق وغضب المشاركين الذين يصرون على مرورها بالحى الإسلامى، وهذه المسألة كانت بمثابة الشرارة التى أشعلت الحرب الخامسة على قطاع غزة لمدة 11 يوماً، لم تتوقف إلا بعد تدخل الولايات المتحدة والقوى الإقليمية. وما زالت الوساطات المصرية والقطرية لمنع تصعيد التوتر مستمرة، لكن أحداً لا يعلم مجريات الأحداث يوم الأحد المقبل.
السؤال: إذا نفذت إسرائيل تهديدها بشن حرب جديدة على غزة فى حال أطلقت المقاومة الفلسطينية صواريخها رداً على استفزاز المستوطنين واليمين المتطرف فى مسيرة الأعلام، هل ينتظر قطاع غزة حرباً من نوع وتكتيك جديد فى ضوء انشغال العالم بالحرب الروسية على أوكرانيا؟ وهل يمكن أن تغير الحرب الروسية - الأوكرانية قواعد اللعبة والحسابات الإسرائيلية هذه المرة؟