حينما هزم الفرس الروم فى أدنى الأرض وهى «مدينة أذرعات» حزن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لهزيمة الروم لعمق فهمهم للإسلام وإدراكهم لمقاصده، فقد كانوا يكرهون أن ينتصر الفرس وكانوا مجوساً عبدة النار على الروم أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله والكتب السماوية ويُجلون الأنبياء مثل إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
وفى الوقت نفسه فرح كفار قريش لهزيمة الروم وكانوا يقابلون أصحاب النبى فيقولون لهم شامتين: إنكم أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إذا قاتلتمونا ظهرنا عليكم «أى هزمناكم»، وكان ذلك يُحزن الصحابة، فنزل قوله تعالى «الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» إلى قوله تعالى «وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»، وهذه الآية بشّرت النبى والصحابة بانتصار الروم على الفرس فى بضع سنين، أى من ثلاث إلى تسع سنوات.
كان ذلك تسرية من القرآن للرسول والصحابة، وكان مخالفاً لمقاييس الحياة، فمن الصعب على أمة مهزومة أن تنتصر سريعاً، ولذلك عجب كفار قريش من نبوءة القرآن وسخروا منها، حتى قالوا لأبى بكر الصديق: ألا ترى إلى ما يقوله صاحبك يزعم الروم تغلب فارس، فرد عليهم سيدنا أبوبكر «صدق صاحبى»، وحدثت ملاسنات كثيرة بسبب هذه الآية بين الصحابة والمشركين، كل فريق يتمنّى نصرة الأقرب إليه، حتى تراهن أبوبكر الصديق مع أُبى بن خلف حول من سينتصر، وحول صدق نبوءة هذه الآية، بعدها بسبع سنوات بالضبط تحقّقت نبوءة الآية.
صعد هرقل إلى سدة الحكم وأنهى الفوضى الداخلية فى دولة الروم وانتصر على الفرس وأعاد البلاد الرومانية التى فقدها، ومنها مصر والشام وفلسطين وآسيا الصغرى.
وقد جاء مع البشارة نصر بدر، فى تواكب رائع مع نصر الروم على الفرس.
ومن إعجاز القرآن فى هذه الآيات «فى أدنى الأرض» المذكورة فى هذه الآية هى غور البحر الميت، وهى التى حدثت فيها المعركة، وهى أقرب بلاد الروم للعرب وأقلها انخفاضاً فى الوقت نفسه، حيث يصل مستوى منسوب سطح الماء إلى 400 متر تحت سطح البحر، والآية ذكرت مكان المعركة ونتيجتها وتوقيتها قبلها بسنوات، ومن أعظم دلائل النبوة قديماً وحديثاً.
هنا يأتى السؤال المهم: لماذا حزن الصحابة والنبى لهزيمة الروم المسيحيين وانتصار الفرس المجوس؟ ولماذا بشّر القرآن النبى والصحابة بنصر الروم بعد هزيمتهم، وبشرهم ببشارة أخرى معهم؟
ولماذا كان المشركون فى قريش يربطون فرحتهم بانتصار الفرس؟
وهل هناك فرق بين قادة الروم، مثل هرقل، وقادة الفرس مثل كسرى، الذى مزق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه الرسول «اللهم مزق ملكه»، فمن كبره لم يكمل الرسالة، وتملكه الغضب من تقديم النبى لاسمه على اسم كسرى.
أما هرقل فلم تهمه هذه الشكليات، رغم أنه كان منتصراً لتوه على الفرس وذهب للحج فى القدس شكراً لربه، وسأل مستشاريه عن وجود قافلة من مكة، فوجدوها وعلى رأسها أبو سفيان، وكان وقتها مشركاً وأجلسه فى مواجهة قومه حتى لا يكذب، وسأله 11 سؤالاً دقيقاً أجابه 11 إجابة خرج منها بحكمته وعقله بـ11 استنتاجاً ورغب فى الإسلام ولكن قواعد ملكه منعته.
وهذه قضية أخرى يخطئ فيها بعض المتدينين إذ يظنون أن الملك أو الحاكم يفعل ما يحب أو يفعل ما يشاء وينسون أن قيوده أكثر من القيود التى على عوام الناس فى كل شىء.
وينسى هؤلاء المتدينون أن النجاشى أحب الإسلام، ولكنه لم يستطع نُطق الشهادتين علناً، ولولا إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن إسلامه لما تأكدنا من ذلك، ولما استقر علم إسلامه لدى الجميع.
إن الذين يضعون أبوطالب وأبولهب، أو المطعم بن عدى وأبوجهل، أو هرقل وكسرى، أو الروم والفرس، أو الغرب وروسيا والصين، أو كوريا الجنوبية والشمالية، أو كارتر وبوش الابن، أو كلينتون وترامب، فى سلة واحدة بحجة أو بأخرى لم يدركوا أى مغزى من مقاصد الشريعة، ولا معنى قوله تعالى «لَيْسُواْ سَوَاءً».