من بين كل أيام تاريخنا الحديث كله، لم يكن يوم أحلك من الخامس من يونيو 1967.
ومن بين كل أيام تاريخنا الحديث كله، لم يكن يوم أكثر إشراقاً من السادس من أكتوبر 1973.
بين هذين العامين ملحمة كبرى للمصريين -شعباً وجيشاً- استمرت ما يزيد على ست سنوات. وقعت نكسة يونيو فى الميدان العسكرى والسياسى، لكنها لم تقع فى نفوس الشعب ولم تمس عقيدة قواته المسلحة الأبيّة التى لا تعرف إلا الشهادة أو النصر. تعرضت مصر لعدوانٍ خاطف، لكنها لم تقبل الهزيمة ولم تعلن استسلامها.
بعض الأمم الكبيرة وقّعت صاغرةً على اتفاقيات هزيمة وإعلان استسلام. مصر لم توقع، ولم تقبل، ولم تستسلم.
فى العاشر من يونيو كان ملايين المصريين فى الشوارع يطالبون باستمرار الرئيس الذى أعلن تنحيه. لم تكن المظاهرات الداعمة تعبيراً عن شعبية زعيم خالد بقدر ما هى تعبير حقيقى عن إرادة شعب.
لم يكد شهر النكسة ينتهى حتى انتفض الجيش المصرى فى رأس العش فى الأول من يوليو من نفس العام بعد أن ظن العدو أن هذا الجيش، وهذا البلد، لن يقويا على المواجهة من جديد. حملت معركة رأس العش دلالة بالغة تفيد بأن مصر لم تنكسر، وشعبها لم يستسلم، وجيشها يأبى الهزيمة أبداً. ولأول مرة جُرح العدو فى كبريائه جرحاً غائراً بعد أسابيع قليلة من عدوانه الخاطف.
كانت رأس العش إعلاناً صريحاً بأن الحرب مستمرة، وأن الخامس من يونيو مجرد جولة أولى. بدأت مصر من هذه المعركة حرب الاستنزاف، وهى فصل من فصول مجد وشرف وكبرياء هذا البلد -شعباً وجيشاً- لا يجب أن يُنسَى ولا أن يُختزَل. استمرت الحرب بمراحلها الثلاث ثلاثة أعوام، من رأس العش فى 1967 إلى إعلان وقف إطلاق النار فى 1970 بعد أن نجحت مصر فى إعادة بناء جيشها، وبناء حائط صد الصواريخ المهم، وتنظيم خطوط الدفاع، وإعداد خطط هجوم أولى نحو حرب تحرير كبرى منتظرة.
خلال ثلاث سنوات فقط تمكنت مصر من فرض واقع جديد مغاير تماماً لواقع الخامس من يونيو، واقع جديد يستند إلى حقيقة رئيسية: «ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة».
رحل «عبدالناصر».. وجاء «السادات».. اختلاف الأشخاص أو تغيير السياسات لم يبدل شيئاً فى يقين البلد، هذا معنى يجب الانتباه إليه. ظلت مصر محتفظة فى يقينها الجمعى، رغم كل التغييرات المحسوبة وغير المحسوبة، أنها قادمة لا محالة نحو حرب تحرير واسعة تعيد الحق لأصحابه، وترد العدو بلغة لا يفهم غيرها، وهى لغة القوة.
اجتمع المصريون على هدف واحد، احتشدت كل الجهود الرسمية والشعبية نحو المعركة، تضافرت قوى المجتمع بكل تنويعاتها وراء الجيش، نفذت القيادة السياسية خطة خداع استراتيجى محكمة، ووضعت خطة هجوم عسكرى شامل شديدة التنظيم وشديدة الدقة، حتى جاءت ساعة الصفر؛ يوم السادس من أكتوبر 1973.
حققت مصر مرادها. عبرت وانتصرت وفرضت الشروط على العدو الذى مُرمِغ أنفه فى التراب لأول مرة، وبما لم يتصور ولم يعتقد ولم يظن.
انتصرت مصر ثلاثة انتصارات؛ أولاً انتصرت استخباراتياً بتحقيق تفوق كامل على أجهزة معلومات العدو التى بلعت كل الطُعم قبل المعركة وأخفقت فى تقديراتها وفشلت فشلاً ذريعاً. ثم انتصرت عسكرياً فى ميادين القتال بالجبهة براً وجواً وبحراً وأنهت للأبد أوهام الأسطورة المُلفقة التى زُعم أنها لا تُقهر، ثم انتصرت سياسياً ودبلوماسياً على مستوى تحقيق الأهداف الكبرى من الحرب، وهى استعادة الأرض كاملة وانسحاب العدو انسحاباً كاملاً صريحاً بغير شرط ولا مقايضة ولا مواءمة.
هذا هو ما حدث قبل نصف قرن بالضبط. لكن من وراء ما حدث دروس وعِبر ومعانٍ لا يجب إغفالها عن مصر التى خاضت طريق الانتصار من الاستنزاف إلى العبور الكبير.
مصر التى آمنت بقدراتها على تحويل النكسة إلى نصر، والأيام الحالكة إلى أيام مشرقة، والفجائع الكبرى إلى أفراح كبرى.
مصر التى واجهت أخطاءها بشجاعة، وصححت مساراتها بعقلانية، واستندت إلى الكفاءة والعلم وحسن التخطيط.
مصر التى وحدت صفوفها، وحددت هدفها، وشارك أهلها، كبيرهم وصغيرهم، فى سيمفونية عزف مشترك لا نشاز فيها، بلا ابتذال مُسِفٍ ولا مُزايدة رخيصة.
هذا هو ما يجب أن نفهمه ونقره ونستعيده، حتى يكون النصر حليفنا.. فى كل معارك اليوم، وهى كثيرة!.. وكل معارك المستقبل، وهى كثيرة!
وأخيراً..
تحية إلى شهداء وأبطال الاستنزاف والنصر
تحية إلى جيشنا العظيم