بعد رفض مصر السدود الإثيوبية واتفاقية عنتيبى، بدأ ميليس زيناوى يشعر بالقلق من قُرب انهيار مخططاته الإقليمية وتبدد أحلامه بزعامة شرق أفريقيا، فأصبح يعبّر عن عدائه الصريح لمصر فى خطبه السياسية، وأطلق أوصافاً مثل التعنت والتكبر والصلف والغرور على القيادات المصرية. واستمر «زيناوى» يردد هذه الافتراءات، وروّجها أيضاً بعض المصريين من ذوى الأجندات الخاصة. لكن الغريب فى الأمر أنّ إثيوبيا هى التى كانت تقود دول الحوض للتعنّت مع مصر واستفزازها. وسنذكر هنا بعض الأمثلة لوقائع تعنّت وتعسُّف غريبة، معظمها من القيادة الإثيوبية. ولنبدأ بواقعة حدثت فى يوليو 2009، وتحديداً بعد الانتهاء من اجتماع الإسكندرية لوزراء دول الحوض. وفى هذا الاجتماع كان قد تم الاتفاق على مهلة ستة أشهر للتفاوض حول البنود الخلافية لاتفاقية عنتيبى. واستغلالاً لهذه المهلة الزمنية، قمت مع الزملاء فى الوزارة بإعداد مبادرة ببعض الأفكار لحلحلة البنود الخلافية، وأرسلت وفداً مصرياً برئاسة سفير من وزارة الخارجية لمناقشة المبادرة مع دول المنبع. وكانت المفاجأة القاسية أنّ بعض دول المنبع رفضت استقبال الوفد المصرى، بحجة أنّهم لا يتفاوضون مع أحد إلا بحضور جميع الأطراف، أمّا إثيوبيا فقد استقبلت الوفد المصرى، لكنّها لم تتحاور معه، وقالوا سنرد عليكم لاحقاً، بمعنى آخر «فوتوا علينا بكرة». والدولة الوحيدة التى استقبلت الوفد المصرى وحاورته وناقشته كانت دولة أوغندا. وواقعة أخرى بدأت أحداثها قبل اجتماع شرم الشيخ بحوالى شهرين، وتوقفت وقتها جميع محاولات الحوار بين دول الحوض. وإنقاذاً للموقف، اقترحت مصر إطلاق مبادرة رئاسية مشتركة مع السودان لمحاولة تفادى هذه الأزمة. ووافقت السودان على المبادرة التى كانت تقترح إنشاء مفوضية للنيل توحّد دول الحوض، وتجذب رؤوس الأموال لدعم برامج التنمية فى دول المنبع، مع استمرار التفاوض حول خلافات اتفاقية عنتيبى. وقامت الرئاسة بتكليفى أنا والوزراء فايزة أبوالنجا وأحمد أبوالغيط بتسليم المبادرة إلى السادة الرؤساء. وكنّا ننتظر أن تأتى ردود مكتوبة على المبادرة مع وزراء دول حوض النيل أثناء اجتماعهم بشرم الشيخ فى أبريل 2010. لكن لم يتم استلام ردود من الرؤساء، بل قام الوزراء بأنفسهم فى شرم الشيخ بعدم احترام البروتوكول، وأصدروا بياناً إعلامياً برفض بلادهم لمبادرة مصر والسودان الرئاسية، وطالبوا بضم هذا الإعلان إلى محضر اجتماع شرم الشيخ. واقعة أخرى حدثت أيضاً فى اجتماع شرم الشيخ، حيث أصدر وزراء دول المنبع السبعة بياناً مشتركاً وتم تضمينه محضر الاجتماع، يقولون فيه «ليس هناك سند قانونى لما تدّعيه مصر والسودان عن الاتفاقيات التاريخية والحقوق المائية، ولو كان لهما سند قانونى لما كان هناك داعٍ لتتفاوض دول المنبع معهما لمدة عشر سنوات كاملة». هذه البيانات صدرت على أرض شرم الشيخ المصرية، ووسط الحفاوة وحسن الوفادة المصرية. والاتفاقيات التاريخية اتفاقيات قانونية وهى نفسها الاتفاقيات التى رسمت حدود هذه الدول. وبالرغم من رفض جميع دول المنبع أى حصة مائية لمصر، وهذا الرفض مسجل رسمياً فى محاضر اجتماعات حوض النيل، ما زالت الحكومات المصرية المتتالية من بعد ثورة يناير تردد أن إثيوبيا وعدتنا بعدم المساس بحصتنا المائية، لو سمحتم اقرأوا أو اسألوا.
ويجب ألا ننسى ما قدمته مصر ومنذ سنوات طويلة من مساعدات لأفريقيا عن طريق وزارة الخارجية، التى كان معظمها للدعم الفنى والتنموى والبعثات، وكذلك مساعدات من وزارة الرى لدول جنوب السودان وأوغندا وتنزانيا وكينيا والكونغو وبورندى، وهناك مساعدات أخرى من وزارات وقطاعات مصرية أخرى عديدة. وقد طالعت مقالاً من أسابيع لوزير الرى المصرى فى إحدى الصحف القومية عن مشاريع الرى المصرية فى دول الحوض منذ تسعينات القرن الماضى، واللطيف أنّ الوزير شكر الرئيس السيسى لبصيرته النافذة ورؤيته الثاقبة على هذه المشاريع التى دعمت التعاون مع دول الحوض، مع أنّ «السيسى» لم يكن وقتها على الساحة السياسية، ولم يشكر وزيرى الرى السابقين اللذين بدآ ونفذا هذه المشاريع. وهناك آخرون يتحدثون عن إهمال مصر للاستثمار فى دول الحوض، طيب اسمعوا هذه الحكاية التى حدثت فى عام 2009. كنت قد تقدمت إلى اللجنة العليا لمياه النيل بطلب لتعزيز التعاون مع أوغندا وإثيوبيا لأهميتهما الحيوية لمصر، فكلف رئيس مجلس الوزراء الوزيرة فايزة أبوالنجا بتنظيم زيارة وفد استثمارى كبير إلى إثيوبيا، التى قامت بتنظيم الزيارة لعشرات كبار المستثمرين ذهبوا إلى إثيوبيا على طائرة خاصة بصحبة رئيس الوزراء وعدد من وزراء المجموعة الاقتصادية، واتفقوا على مشاريع بحوالى 2 مليار دولار مع فتح فرع لبنك مصرى هناك. وكان الامتنان الإثيوبى لمصر كبيراً جداً، ده طبعاً غير الأحضان والقبلات، والذى منه، فبعد خمسة أشهر قامت إثيوبيا مشكورة بقيادة دول المنبع للتوقيع على اتفاقية عنتيبى. هوّ فيه إيه، إحنا مابنتعلمش، ده المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
وتعليقاً على الفشل الذى كان متوقعاً لاجتماع اللجنة الثلاثية الأخير لسد النهضة، فإنّ المسئولية فى رأيى على من أخطأ قاصداً أو جاهلاً فى اختيار المسئولين الحاليين ذوى القدرات والإمكانات المحدودة فنياً وسياسياً واستراتيجياً. لقد كان هناك أحد وزراء الثورة يصاحبه مترجم علشان يفهم المحادثات، والثانى بياخد واحد معاه فى المباحثات علشان لغته بعافية شوية. هناك أخطاء فادحة ارتُكبت، وتنازلات مصرية تمت وما كانت أن تتم. لقد اعترفنا لإثيوبيا بالسد، واعترفنا لإثيوبيا ضمنياً بسعة السد، واعترفنا لإثيوبيا بالحق فى استخدام مياه السد فى الطاقة وفى الزراعة وفى أى تنمية، واعترفنا لإثيوبيا بحصة مائية تحت مسمى الاستخدام العادل والمنصف للمياه «مصيبة سودة وحالكة». واحنا لسّه بنتكلم عن دراسات السد، وإيه هىّ الدراسات، هنملا السد فى 3 سنوات أم 5، حرام والله حرام كفاية ورمنا.
حدانا فى الصعيد الجوّانى وبجانب الجبل الغربى، يوجد عدد من النجوع من الأهل والجيرة من المصريين الطيبين الجدعان ولا يخشون إلا الله، وأطلقت على واحد منهم «نجع الهنود الحمر»، وتخيلت أنّ الكبير فى هذا النجع معاه دبلوم زراعة قديم ومن بيت كبير، وقد أرسل من خلالى رسالة إلى وزير الرى المصرى بيقول فيها «رمضان كريم يا باشا الوزير، هو صحيح يا باشا انت أخذت تصويرة جنب السد الحبشى اللّى هيبور الأرض ويجفف الضرع ويعطش الولد ويضلم الدنيا، أنا متأكد يا باشا أنّ الكلام ده ماحصلش، معقولة الوزير المصرى يفرح ويتصور جنب حاجة تضر بلده يا عجايب يا أولاد الحمر. بس صحيح يا باشا انتم لسه بتتكلموا على عمل دراسات للسد وهو خلاص هيولد كهرباء الفيضان الجاى. والله يا باشا كل يوم أتأكد أنّه مفيش نصاحة أكتر من نصاحتنا إحنا الهنود الحمر، الله يرحمك يا جد».