من تاريخ قناة السويس.. حكاية انخفاض أعداد الجيش بعد اقتراح "ديليسبس"
أوشك فصل الشتاء على الانتهاء، بدأت الأوراق تزدهر، لكن في صحراء شرق مصر لا يوجد سوى المزيد من الصقيع الذي يضرب وجوه الآلاف من العمال المصريين الذين يعملون بالسخرة للانتهاء من مشروع قناة السويس الذي يشرف عليه المهندس الفرنسي "ديليسبس"، يقترب شهر رمضان بنهاية فبراير من عام 1962 ليرسل "ديليسبس" بحسب ما أوضح في خطاباته إلى الوالي سعيد، يطلب منه عدم إرسال عمال له خلال شهر رمضان حيث ستتوقف أعمال الحفر.
أخبر "ديليسبس"، بحسب ما ورد في كتاب "السخرة في حفر قناة السويس"، للدكتور عبدالعزيز محمد الشناوي سعيد، أنه بعد انتهاء الشهر سيكون عليه أن يرسل 30 ألف عاملًا ابتداءً من أبريل، وحاول "ديليسبس" أن يهون على "سعيد" ضخامة هذا العدد فاقترح عليه تخفيض عدد الجيش، وأن يرسل الجنود المسرحين إلى منطقة البرزخ للعمل في الحفر دون أن تتحمل الحكومة نفقات بشأنهم.
وفجأ "سعيد" المهندس الفرنسي عندما اصدر أوامره إلى مديري الأقاليم بالمضي في جمع العمال وترحيلهم إلى ساحات الحفر خلال شهر رمضان، على أن تترك الحرية لهم لمن شاء أن يعمل في الليل أو النهار، على أن يكون كل منهم في كلتا الحالتين ملزمًا بإنجاز نصيبه كاملًا في حفر الأجزاء التي تحدد له في المدة المقررة لبقائه في البرزخ، ونتيجة لذلك ظفر "ديليسبس" بعدد وافر من عمال السخرة بلغ عددهم 19687 سيقوا إلى ساحات الحفر في شهر رمضان في مارس من عام 1862، وفضل الكثير منهم الحفر أثناء الليل.
أما اقتراح "ديليسبس" بتخفيض عدد الجيش المصري بسبب حفر القناة فلم تجد كتب التاريخ أثرًا لرد الوالي "سعيد" على هذا المقترح، كما يوضح الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوي، في كتابه "السخرة في حفر قناة السويس"، كما لم يوجد في المحفوظات التي وجدت في قصر عابدين، كما أن الأوامر الكريمة التي صدرت من الجناب العالي إلى ديوان الجهادية لم ترد فيها إشارة إلى هذا الموضوع.
على الأغلب أن سعيد باشا، اتبع في هذه المسألة بالذات مألوف عادته من تجنب إصدار أوامر مكتوبة إلى رجال الحكومة، إذ كان يكتفي باستدعائهم، وإصدار الأوامر دون تسجيلها، لكن بعد وفاة "سعيد باشا" وقام نزاع بين الحكومة المصرية والشركة في مستهل حكم إسماعيل، حول تسخير المصريين في حفر القناة وبعض المشكلات الأخرى، وأعلن "ديليسبس" في الخطاب الذي ألقاه في الاجتماع غير العادي لحملة الأسهم بتاريخ أول مارس عام 1864، أنه: "اختص سعيد باشا أعمال الحفر في قناة السويس بوافر عنايته، فأنقص عدد جنود الجيش المصري إلى ثمانية آلاف بعد أن كان عددهم يربو على 60 ألفًا، وكان سعيد يجمع العمال اللازمين للحفر من أولئك الشبان الذين قيدت أسماؤهم في الخدمة العسكرية، وكان يمكن في أي لحظة دعوتهم للانخراط في سلك الجيش المصري".
وفي محاضرة عامة ألقاها "ديليسبس" في صبيحة ذلك الاجتماع تناول موضوع إنقاص عدد الجنود في عهد سعيد، فذكر أن عدد جنود الجيش بلغ في أوائل حكمه 40 ألفًا، ثم هبط إلى 30 ألفًا، ثم أخيرًا إلى 10 آلاف فقط، حتى يستطيع أن يبعث إلى البرزخ 20 ألفًا دون أن يؤثر ذلك على الحالة الزراعية في البلاد.
وبدأت قصة تخفيض عدد الجنود في عام 1860عندما ساءت العلاقة بين الباب العالي، وسعيد باشا، بسبب موضوع قناة السويس.
ورأى "سعيد" أن يأخذ للأمر عدته فزاد من عدد أفراده وأرجع إليه ضباطه، وكان معظمهم آنذاك من خارج الخدمة وبعضهم في مصالح الحكومة، وقفز عدد الجيش إلى 64 ألفا، وكان عدد كتائب المشاة 45، وشمل الجيش عدا ذلك 20 فرقة منم المدفعية، وفرقتين من مدفعية السواحل، و6 فرق من الفرسان، بالإضافة إلى فرق من الأسلحة الأخرى، وقاد "سعيد" الجيش بنفسه وعسكر به في مريوط، إذ أقام 3 أشهر قام خلالها الجيش بمناورات حربية.
ولما خفت حدة التوتر بين الباب العالي، وسعيد، سرح معظم أفراد ذلك الجيش مرة أخرى، فانكمشت قوته الحربية، وظلت هكذا طوال فترة حكمه، وكان تخفيض الجيش فرصة مواتية لشركة القناة إذ أتيح لها أن تحصل على جيش جرار من العمال فبلغ عددهم في شهر أبريل من العام 1962 وهو الذي أعقب شهر رمضان، 22.482، وفي أول مايو من العام نفسه أعلن دليسبس أن عدد المصريين الذين يحفرون القناة وصل إلى 26 ألف رجل.