أبناء قبيلة «الأتمن»: نذهب لاستخراج أوراق رسمية فيقولون: «أنتم سودانيون»
أبناء قبيلة «الأتمن»: نذهب لاستخراج أوراق رسمية فيقولون: «أنتم سودانيون»

صورة أرشيفية
فى نهاية السوق الدولية بمدينة الشلاتين، ومع بداية ظهور الأكواخ العشبية، فى عزبة «العالى»، يظهر كشك خشبى صغير، يبيع لبن الإبل، وأمامه يجلس شيخ كبير، ذو جسد نحيل تزين رأسه عمة بيضاء كبرى، وفى يمينه عكاز خشبى يتكئ عليه نهوضاً وجلوساً.
«السيد محمد أوشيك»، شيخ قبيلة «الأتمن»، يروى بلهجة بدوية لـ«الوطن»، عن ذكريات أجداده، الذين تركوا أماكن عيشهم، التى تبدأ عند خط 22 درجة والتى أدرجت عندها حدود السودان الحالية، إلى الوصول إلى مثلث حلايب وشلاتين خلال عملهم فى الرعى بالجبال: «أجدادنا جاءوا إلى هنا قبل عقود العقود.. فى زمن لم يكن فيه للحدود بين مصر والسودان وجود».
ويعتمد «أوشيك» بظهره إلى أحد الأعمدة الخشبية، يحضر له أحد أبنائه إناء من لبن الإبل، يحتسيه بكل هدوء، ويقول باسماً إن لقبه «أوشيك» يعنى كلمة «الشيخ» ولكن باللهجة المحلية فى المثلث: «لغة قبائل البجا»، يقولها بكل زهو، فقبيلة الأتمن تنتمى لقبائل «البجا» شأنها شأن قبائل البشارية والهدندوة، جيرانهم فى المسكن والمعاش، ولكنهم لم يدرجوا ضمن قبائل المنطقة فى عهد «مبارك»، لا يعرف الرجل سبباً واضحاً لسقوطهم من حسابات الدولة المصرية، ولا يستطيع أن يصرح بأكثر من أنهم من الفئات الأكثر ظلماً فى المنطقة: «فيه ظلم أكتر من إنك لا تعرف لك وطن ولا جنسية ولا ماهية.. رغم أننا ولدنا فى تلك الأرض ونعيش عليها».
وكل ما يتمناه «أوشيك» المساواة بين قبيلة الأتمن، ذات الأقلية العددية فى الشلاتين، بباقى أشقائهم من القبائل التى تعيش إلى جوارهم، فهو لا يجد أنهم يختلفون عنهم فى شىء: «الزى واحد والرطانة واحدة والتصاهر واحد والأخوية واحدة، كلنا قبائل متشابكة كلنا ننتمى لقبائل البجا». ويستطرد الرجل بصوت رخيم: «لو البشارى مصرى يبقى الأتمناوى مصرى»، بل يجد أنهم من يحملون على عاتقهم العمل بالمقاهى والترزية والمطاعم والأفران وبالكثير من الأعمال التى ترفض القيام بها القبائل الأخرى: «نحن وقود السوق التى تقوم عليها الشلاتين من الأساس»، مؤكداً أن «وجودهم على تلك الأرض يسبق الحكومة المصرية أصلاً».
ويتابع «أوشيك» قائلاً إن طبيعة المناطق الحدودية فى مصر وغيرها من الدولة أن تنتشر قبائل لديها تزاوج وأقارب على حدود الدول المجاورة، خاصة فى الدول العربية التى لم تكن تربطها ببعض أى حدود: «يعنى تلاقى البشارى ليه ابن عمه فى السودان والأتمناوى كذلك ولا يجب أن نعتبر تلك سبة أو تقلل من انتماء أو تشكك فى جنسية المصرى الذى لديه شقيق أو ابن عمه يعيش فى السودان وفى الآخر كانت تلك المنطقة بالكامل تتبع الإدارة السودانية لفترة من الزمان».
ويحاول «أوشيك» مطالبة شئون القبائل المخول لها استخراج أوراق ثبوتية لأبناء المنطقة، ولكن كان دائماً يُرفض الاعتراف بهم: «امشوا انتوا سودانيين»، ويرفضون الاعتراف بهم مصريين، ويقول الرجل بعصبية مفرطة، «لو رافضين يعترفوا بينا مصريين، يعطونا حقوقنا كلاجئين»، ويتساءل: «هل اللاجئون فى مصر لا يتعلمون ولا يحصلون على أبسط وأدنى حقوقهم كإنسان». تلقى «أوشيك» وقبيلته الكثير من الوعود من المرشحين لرئاسة الجمهورية: «لما ننجح ونوصل للرئاسة هنحل مشكلتكم»، ولكن تبددت كل الوعود، ولم يحقق لهم الرئيس السيسى الذى كان ينتظر لقاءه بعد الفوز أى مطلب.
لم يسلك الرجل المسار الذى لجأ إليه بعض أبناء قبيلته، حين تملكهم اليأس من تعليم أبنائهم فى مصر، فبحثوا عن طريق الهروب إلى السودان للتعليم هناك، لم يجدوا أى حل آخر حسب رواية الرجل، ولكنه حتى ذلك الحل يرفضه، وينتظر حقوقه من الدولة المصرية: «أنا موافق أعيش فى الجهل أنا وولادى وأسرتى دون التخلى عن مصريتى». انتظر «أوشيك» كثيراً دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى، للقائه، كما التقى بقية شيوخ القبائل بعد وصوله للحكم، ولكن الانتظار طال ولم يتحقق الحلم: «إحنا أولى باللقاء، نحن نعيش بدون أدنى حقوق يستحقها الإنسان»، ولكن ساخراً يعود ليرد على نفسه: «بس حتى لو كانت جات لى دعوة مكنتش هعرف أعبر بوابة الشلاتين للقاهرة عشان مش معايا بطاقة»، ويستطرد: «دون أوراق ثبوتية لا يوجد لديك أى حقوق».
وبالقرب من أحد الأكواخ فى عزبة العالى، يقف «أوشيك عيسى» رجل أربعينى السن، كث اللحية، من أبناء قبيلة الأتمن، ينتظر وصول عربة المياه بفارغ الصبر، لكى يشترى منها ما يكفى أسرته: «نشترى المياه فى الوقت الذى تحصل عليها جميع القبائل مجاناً»، يقول «عيسى»، مشيراً إلى أنهم يشترون مياه محطة التحلية بـ14 جنيهاً للطن الواحد، بخلاف شراء مياه الشرب العذبة التى تباع فى المدينة، ويقود «عيسى» سيارته ذات الدفع الرباعى، التى لا تحمل لوحات، لا يستطيع أن يتحرك بها إلا من منزله إلى محله الذى يظهر فى أحد الأركان المنزوية من السوق: «أنا مش معايا ورقة واحدة تثبت إنى موجود وعايش حياتى فى البلد ديه هيكون للعربية اللى راكبها ورق ولا أرقام؟».
«أوشيك» شيخ القبيلة: نحن مصريون أصلاء أباً عن جد.. وموجودون هنا «قبل وجود الحكومة».. وأبناؤنا يلجأون للانتماء لقبائل أخرى للوصول للجنسية
ولكن «عيسى» يرفض التنصل من قبيلة «الأتمن» التى يعتز بانتمائه لها، من أجل الحصول على بطاقة رقم قومى وأوراق ثبوت تمكن نجله من دخول المدرسة لكى يتعلم ويكون له مستقبل، ويقول إن بعض الأتمن لم يجد بداً من التنصل من القبيلة، والحصول على بطاقة وأوراق ثبوتية من خلال قبائل أخرى، فلا أحد يعرف التفريق بين البشارى والأتمناوى، مشيراً إلى بعض أفراد الأتمن الذين يملكون أوراقاً ثبوتية حصلوا عليها فقط من خلال الإعلان عن انتمائهم لقبائل أخرى، حتى يستطيعوا أن يعيشوا حياة كريمة وتكون لهم حقوق كما كانت عليهم واجبات.
500 نسمة عدد أفراد قبيلة «الأتمن» بمدينة الشلاتين ويعيشون فى قرى العالى والصول