كان السيد سائق التاكسى يستمع إلى فاصل من الروشنة الرياضية الكروية على محطة إذاعية حين جلست إلى جواره قاصداً جهة العمل فى مدينة الزقازيق. انفعل السائق الخمسينى الوقور بالأخبار التى يتلوها عليه السيد المذيع حول الآفاق العالمية غير المسبوقة التى اخترقها اللاعب المصرى محمد صلاح بعد تألقه مع فريق ليفربول فى الدورى الإنجليزى واعتلائه عرش هدّافى الدورى المذكور. السائق لم يكن يتحدث فى الرياضة أو كرة القدم، ولكنه انطلق يؤكد أن مصر تفشل دائماً فى الاستفادة من نبوغ أبنائها رغم حاجتها الشديدة لهؤلاء النجوم. قلت له إن محمد صلاح يمثل مصر فى المباريات الدولية ويشارك فى حملات عالمية ومحلية لمحاربة الإدمان ولا يتخلف عن أى نشاط دعائى أو خيرى لصالح الوطن . نظر لى السائق مستنكراً غبائى، وقال إنه لا يقصد هذه الأشياء التقليدية التى يمارسها كل لاعبى الكرة والفنانين وغيرهم، ولكنه يطالب باستغلال نجومية محمد صلاح فيما هو أهم من ذلك بكثير، ثم شرح وجهة نظره قائلاً إننا شعب تقليدى محدود التفكير لا نعرف كيفية الاستفادة من مواردنا المادية والبشرية، ولهذا نترك محمد صلاح فى ملاعب الكرة بينما المفروض أن يكون رئيساً لهذا البلد مثل زميله لاعب ليبيريا «جورج وايا». قلت له إن الكابتن جورج لم يتحول من لاعب إلى رئيس إلا بعد اعتزاله، وإن بلاده ليست فى حجم مصر ومشاكل مصر. قال السائق إن كل هذا «كلام فاضى»، وإن موهبة صلاح فى عقله وحكمته وليست فى إحراز الأهداف فقط، ويكفى أنه جعل الإنجليز يسجدون مثله ويعشقون الإسلام مثله، وربما تتحول أوروبا كلها إلى الدين الإسلامى الحنيف بفضل هذا النجم العظيم. وبعد فترة من المحاولات الفاشلة لإقناع السائق بأن الموهبة الرياضية لا تعنى بالضرورة قدرة صاحبها على ممارسة السياسة أو العمل التنفيذى، تمكنت بفضل الله من إقناعه باستمرار السيسى فى الرئاسة واستمرار محمد صلاح فى لعب الكرة طوال السنوات الأربع القادمة، ثم نسعى بعد ذلك لتدشين عهد الكابتن الرئيس «مو صلاح»!!
إخواننا المصريون لا يعرفون الموضوعية فى تناول شتى جوانب حياتهم، ولو طلبت منهم الالتزام بها ستواجه سيلاً من السخرية وقلة الأدب، ويتهمك معظمهم بأنك تتصنّع الحكمة بينما أنت فى الواقع أحد أراذل البشر.
حين حصل «زويل» على جائزة نوبل أقحمه المصريون فى السياسة، وصنعوا منه مفكراً ومنظّراً، وصاروا يشاركون فى اللقاءات التى يعقدها بين الحين والآخر ويتحدث فيها عن الشأن السياسى المحلى والقومى والدولى دون أن يكون على دراية حقيقية بهذه الأمور بحكم ظروف عمله، وانتهت القصة بتأسيس جامعة باسم هذا الرجل، ثم انهالت عليه الاتهامات وأحياناً الشتائم، لأن جامعته اغتصبت مبانى إحدى الجامعات الخاصة الأخرى، ولم يعد أحد يطالب به رئيساً للجمهورية مثلما كان الحال بعد حصوله على الجائزة واستجابته للمشاركة فى الشأن السياسى.
وحين حصل محمد البرادعى على نفس الجائزة صنع منه المصريون رمزاً سياسياً للشعب، ومرشحاً للرئاسة وصناعة الديمقراطية واستعادة حقوق الفقراء، وطالبوه بالعودة إلى الوطن فوراً لقيادة الحركة الوطنية رغم أنه لم يكن فى يوم من الأيام منخرطاً أو مهتماً بهذا الشأن. وعندما استجاب الرجل لدعوة القطيع النخبوى والعمومى قالوا عنه إنه خائن وعميل، وإنه مهندس احتلال العراق وتدمير الوطن العربى، وإنه جاسوس للأمريكان والصهاينة، وإنه منحاز لجماعة الإخوان وشريك فى مؤامرة كلينتون وأوباما لإجهاض ثورة يناير، وما زالوا يشتمونه حتى الآن رغم دوره الإيجابى فى «يونيو» ومساندته لاسترداد الدولة من عصابة الإخوان، ولكن المصريين لا يعرفون الموضوعية ويعتبرها معظمهم نوعاً من الخيانة العظمى.
وعند رحيل عبدالناصر كان فريق من المصريين يتوقع ويتمنى أن يحل محله الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل رئيساً للبلاد، ولكنهم تنازلوا عن هذه الفكرة بعد أن تولى السادات رئاسة الدولة ثم طرد هيكل من «الأهرام» ومنعه من الكتابة واعتقله وزجّ به فى السجن مع كل العناصر الوطنية الناطقة التى كانت تعارض اتفاقية كامب ديفيد، وتحول هيكل فى عهد مبارك من مرشح للرئاسة وأستاذ للمشتغلين بمهنة الصحافة والكتابة السياسية إلى سجين سابق وصحفى دمرته الشيخوخة والتخاريف، وصار أقزام كثيرون على المستويين النخبوى والعمومى يهاجمون الرجل ويتهمه بعضهم بالفساد والعمالة والجهل والبحث عن منصب فى النظام الجديد.
حتى فى المجال الفنى والرياضى لا ينجو أحد من «البهدلة» على أيدى نفس من صعدوا به إلى السماء وجعلوا منه نجماً لكل العصور.
عبدالحليم حافظ كان يتعرض كل يوم لاتهامات ادعاء المرض واتهامات تدمير كل منافسيه واتهامات الولاء الأعمى للنظام واتهامات الزواج السرى واتهامات سرقة الأغانى والألحان واتهامات التكبر على أستاذية أم كلثوم والسعى لإبعاد فريد الأطرش.
أم كلثوم اتهموها فى بداية ثورة يوليو بالعمالة للنظام البائد وحاولوا منع أغنياتها من الإذاعة وحوربت بعد ذلك على أيدى حاشية السادات رغم كل جهودها الوطنية بعد النكسة وفى كل المناسبات الوطنية ورغم المكانة الفنية غير المسبوقة التى حققتها بموهبتها واجتهادها وتفوقها على كل الآخرين.
محمد أبوتريكة تحول فى لحظة واحدة من نجم نجوم كرة القدم إلى إرهابى وزعيم من زعماء عصابة الإخوان وعميل لدولة قطر.
حسن حمدى تحول من وزير دفاع الأهلى والمنتخب إلى أحد المتهمين فى مؤسسة الأهرام ومعه الأخ «بيبو» أحد النجوم التاريخيين فى لعبة كرة القدم.
عبدالسلام النابلسى طاردته الضرائب حتى مات من الفقر والديون واحتمالات السجن.
عبدالرحمن الأبنودى قال عنه زملاء المهنة كلاماً أكثر قسوة مما قيل فى حق الصهاينة والجواسيس.
هذا إلى جانب شائعات الهلس والدعارة التى لم ينجُ منها معظم نجمات السينما والمسرح والغناء فى شتى العصور المصرية.
ونفس هذا القرف تسمعه حول نجوم الأدب والإعلام كلما اقتربت من دوائر عملهم أو حياتهم الشخصية.
المصريون مرضى بالدونية، لا يصدقون إمكانية نجاح أحدهم ووصوله إلى آفاق العالمية فيبالغون إلى أقصى حد فى الاحتفاء بهذا النجاح، ثم يبالغون فى ترميم سلبياتم وإخفاقاتهم الشخصية والعامة بنجومية مواطنهم الناجح، ويتخذون منه مثالاً على عبقرية الشعب المصرى الذى يتفوق على كل خلق الله إن أتيحت له الفرصة.
الإعلام المصرى لم يكتفِ بالمبالغة الشديدة فى متابعة كل تحركات وإنجازات وإحصائيات محمد صلاح، ولكنه بدأ الآن فى نقله من صفحات الرياضة إلى صفحات السياسة، حيث قالت إحدى الصحف إن قناة الجزيرة ودولة قطر تتآمران على النجم المصرى، وتحاول القناة القطرية إقناع والده وأسرته بالهجوم أو الاعتراض على النظام السياسى فى مصر مقابل مليون جنيه، وقالت صحيفة أخرى إن زملاء صلاح فى ليفربول غاضبون من إدارة النادى بسبب الأجر الكبير الذى يتقاضاه اللاعب المصرى والذى قد يتضاعف فى الموسم القادم حتى لا ينتقل صلاح إلى نادٍ آخر، وقالت صحيفة ثالثة إن الشعب الإنجليزى غاضب من الشعب الإسبانى بسبب محاولات السطو على النجم المصرى لصالح ريال مدريد. وقال مصدر رابع إن الولايات المتحدة الأمريكية هى الدولة الوحيدة التى لا تهتم بأخبار وإنجازات محمد صلاح حتى لا يضر هذا الاهتمام بمصالح الصهاينة فى إسرائيل.
محمد صلاح لاعب كرة قدم محترف موهوب ومجتهد ومتواضع ومستقيم أخلاقياً، فلماذا لا نكتفى بمتابعته فى حدود هذه الصفات ونتمنى له المزيد دون مبالغات قد تنقلب عليه وعلينا ذات يوم؟
افرض مثلاً أن محمد صلاح حقق معجزة فى المونديال القادم وتمكّن من إحراز أهداف مصيرية فى كل مباريات الفريق المصرى، وأدت هذه الأهداف لوصول مصر إلى النهائى ثم حصولها على كأس العالم بفضل أهداف وتألق لاعبها الموهوب، ماذا نقدم لمحمد صلاح آنذاك مقابل هذا الفتح المبين غير المسبوق أو الملحوق؟ هل نطلق اسمه على الدولة المصرية فنتحول إلى «جمهورية مو»؟!