قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين (15)
يروى ابن الأثير بعد ذلك قصة عجيبة تتعلق بنبوءة جاء بها كعب الأحبار يقول فيها «انصرف عمر إلى منزله -بعد الحوار الذى وقع بينه وبين أبى لؤلؤة- فلما كان الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، اعهد فإنك ميت فى ثلاث ليال. قال: وما يدريك؟ قال: أجده فى كتاب التوراة. قال عمر: الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب فى التوراة؟ قال: اللهم لا! ولكنى أجد حليتك وصفتك وأنك قد فنى أجلك. قال: وعمر لا يحس وجعاً! فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقى يومان. فلما كان الغد جاءه كعبٌ فقال: مضى يومان وبقى يوم. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالاً فإذا استوت كبّر، ودخل أبولؤلؤة فى الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه فى وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهى التى قتلته، وقتل معه كليب بن أبى البكير الليثى وكان خلفه، وقتل جماعة غيره».
يتعجب قارئ هذه الرواية من كثرة تنبؤات علماء أمة الإسلام وقدرتهم الخارقة على توقع الأحداث القادمة، ويزداد عجباً بعد ذلك من عجز البشر عن مواجهة الأقدار التى خطت، رغم علمهم أو إعلامهم بها. وتقبل هذه القصة التشكيك فى محتواها من أكثر من زاوية، لعل أبرزها احتجاج «كعب الأحبار» بما ورد فى التوراة فى مجال وضع نبوءته أمام عمر الخطاب التى تقول بأنه مقتول بعد ثلاثة أيام، وتعجب الصحابى الجليل عمر بن الخطاب من كلام «كعب الأحبار» الذى يقول بموته رغم أنه لا يحس وجعاً، وكأن عمر يرى أن الوجع أو المرض شرط الموت، وينفى -معاذ الله- فكرة أن الموت يمكن أن يأتى الإنسان بغتة وهو لا يشعر، كما ينص القرآن الكريم. إننا من جديد أمام محاولة للتأكيد على أن مسار الأحداث السياسية فى تاريخ الأمة كان يسير وفقاً لقدر محتوم وعلم معلوم، وأن حركة التاريخ لا يحكمها إرادة البشر وإنما هى محكومة بقضاء الله وقدره.
طعن أبولؤلؤة عمر بن الخطاب وهو يسوى الصفوف وطعن اثنى عشر معه هو ثالث عشر «قال عمرو بن ميمون: فأنا رأيت عمر باسطا يده وهو يقول أدركوا الكلب فقد قتلنى قال فماج الناس وأتاه رجل من ورائه فأخذه، قال: فمات منهم سبعة أو ستة، قال: فحمل عمر إلى منزله، قال: فأتى الطبيب، فقال: أى الشراب أحب إليك؟ قال: النبيذ، قال: فدعى بنبيذ فشرب منه فخرج من إحدى طعناته، فقالوا: إنما هذا الصديد صديد دم، قال: فدعى بلبن فشرب منه فخرج، فقال: أوص بما كنت موصيا فوالله ما أراك تمسى».
قتل عمر بن الخطاب رضى الله عنه على يد واحد من العلوج الذين كان يحب العباس وابن عباس الاستكثار منهم، وهو ما قاله لابن عباس: «قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقا، فقال: إن شئت فعلت، أى إن شئت قتلنا، قال: كذبت بعد ما تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه». يبدو هذا الموقف وكأنه كان عتاباً من عمر بن الخطاب للعباس وولده لأنهما كانا يحبان جلب الصناع ويستكثران منهم، وأن واحداً من هؤلاء العلوج المجلوبين هو من أعمل فيه الخنجر وقتله.
كان ما كان وطعن عمر بن الخطاب، ودخل فى مرحلة الوجع والاحتضار، وتنبه إلى صدق نبوءة «كعب الأحبار» وأن نصيحته له بأن يعهد عهده لمن يلى أمر المسلمين بعده كانت فى محلها، فتحرك سريعاً لحسم الأمر «فدعا عبدالرحمن فقال له: إنى أريد أن أعهد إليك. قال: أتشير على بذلك؟ قال: لا. قال: والله، لا أدخل فيه أبداً. قال: فهبنى صمتاً حتى أعهد إلى النفر الذين توفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ. ثم دعا علياً وعثمان والزبير وسعداً فقال: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثاً فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم». وبذا يكون عمر رضى الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر وهم: عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص وعبدالرحمن بن عوف رضى الله عنهم، وتحرج -كما يشير ابن كثيرفى البداية والنهاية- أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين وقال لا أتحمل أمرهم حيا وميتا.
الأخبار المتعلقة:
ليلة البقيع: إشارة البدء للصراع على السلطة فى الإسلام
الإمامة فى الصلاة.. إشارة العهد
السيف والصولجان: «الرزية» التى أدت إلى الصراع بين المسلمين
قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين (4) .. محاولات «بنى عبدالمطلب» إدراك الأمر
القلق يستبد بـ«بنى عبدالمطلب».. و«الأنصار» فى حيرة
صراع بين الكبار.. وعوام المسلمين غائبون
انشقاق فى صفوف الأنصار.. والحكم للأهل والعشيرة
الحكم قدر من الله.. ولا حق لمزاحمة من قضى الله بالسلطة له
سعد بن عبادة المعارض الصلب لحكم أبى بكر و عمر
الحرب السياسية تمتد إلى مانعى الصدقات
السيف والصولجان: قصة الصراع على الحكم فى تاريخ المسلمين
«العلوج» على تخوم المدينة يتوعدون عمر بن الخطاب