ماذا يحدث لو اختفى رجال الدين من العالم؟ سوف تسقط وساطة الكهنة بين الإنسان وربه، لتصبح «حرية العقيدة» شأناً خاصاً، ليس محل مجادلة قانونية فى الأوراق الثبوتية، ولا محل «مزايدة فقهية» فى كتب تاريخية تحدد لنا آداب المعاشرة والأُضحية ذات القرن الواحد، وقرار الزواج أو الطلاق ستحدده «اتفاقية مدنية» بلا شروط مجحفة من «مؤسسة ما» تحدد من يفسخ ومن يتزوج: من يستحق البركة فوراً ومن يُطرد من جنة الكهنة إلى الأبد!
سوف تختفى «ولاية الفقيه» فلا يتبقى إلا ولاية الإنسان الراشد الحر على عقله ووجدانه، على قلبه ونسله.. وهى ولاية مشروطة بقبول كل الأديان «سماوية وأرضية» والتعايش مع كل الملل والأعراق، ولاية لا فضل فيها للحيوان المنوى على البويضة إلا للصدفة التى جعلتهما يلتقيان لتستمر سلالة البشر.
ولا أولوية فيها لتأشيرة هجرة أو جواز سفر.. فالعالم حر هنا وهناك: كل المقدسات الدينية ستتحول من مزارات روحية إلى منتجعات سياحية، فيها من يتعبد ومن يتأمل ومن يعمل فى صمت دون أن يتلفت للآخرين.. تماماً كما ترى فى مسجد «الحسين».. بشر لا تعرف السلفى منهم من الصوفى.. ولا الشيعى من السنى.. وفى قلب القاهرة ستُرفع الحراسة من على «المعبد اليهودى».. للبيت رب يحميه.
إذا اختفى رجال الدين من العالم، ستصبح ألقابهم مثل «البك والباشا» تقال تفخيماً أو تندراً، وتدخل أزياؤهم بقدسيتها ورونقها وحصانتها «متحف التاريخ» مثل «الطربوش».. لن يدفع «المواطن الشقيان» ثمناً لتذكرة متحفهم المهجور، فلديه «النقاب» كفيل بأن يذكّره بمرحلة حكم الملالى لرقاب العباد.
سوف يختفى «التنمر» من المجتمعات، وتغلق أبواب «كابول» على أشباح احترفت الإرهاب، لم يتبقَّ منها إلا أسلحة صدئة وذقون مغبرة بعناكب الكهوف.. كابول عاصمة قاطعها العالم المتحضر.. إنها كل ما تبقى من «الإنسان البدائى».
اختفى رجال الدين، فعادت سوريا لأهلها، دون تناحر وصراع طائفى، عادت اليمن مهمومة بإعادة الإعمار.. والعراق تحممت فى ضوء القمر وهى تستعيد حضارتها وتغزل الياسمين عنقوداً من الشعر لفلسطين.
فلسطين اليوم لم تعد ملكاً لحناجر التحريض: «واقدساااه.. واإسلااماه»، قل إنها أرض محتلة، وإن أهلها يتعرضون للتصفية العرقية وإنها المائدة الأخيرة لمفاوضات السلام.. لكن «طاقية اليهود» سقطت أيضاً، لم تعد عاصمة العنصرية الدينية، لقد أجبر قادة العالم تل أبيب على فتح أبواب القدس لكل الأديان.
هل مازلت تتمسك بنعرة القومية العربية كبديل آمن لدور رجال الدين؟!.. طهِّر ما تبقى من دموية فى شرايينك، توضأ من دماء مَن ماتوا فى احتلال «صدام» للكويت، ومَن استُشهد من أجل تحريرها.. تذكّر أنك لست وصياً على العالم، ولا مفوضاً للدفاع عن شعب آخر.. كل مهمتك هى «إعمار الأرض».
لو اختفى رجال الدين لتوجهت مليارات المؤسسات الدينية إلى «البحث العلمى»، وسطرنا أسماءنا فى سجل «نوبل» مجدداً.. لأطعمنا المشرَّدين وأطفال الشوارع والأيتام وأسكنّاهم قلوبنا وعقولنا.. لأصبح العلم عبادة.
لن يختفى رجال الدين من العالم، لأن «الطقوس» والألقاب «الحاج نموذجاً» أهم لدينا من صُلب العقيدة، ولأن بعضنا يقتات على مصّ دم الآخر بالنزاعات الطائفية والحروب الأهلية، ولأننا لسنا أصحاب «قضية» ولا ممن يتفقهون.. نحن قوالب فارغة جاهزة لصبّ أى لعنة فيها من أصحاب الفضيلة والقداسة «ربنا يجعل كلامنا خفيف عليهم».