فى اللقاء الأول مع الشاعر العربى الكبير مظفر النواب (صاحب ملحمتى الوتريات والقدس عروس عروبتكم) والمعروف بشاعر المنافى، الذى هاجم كل الأنظمة العربية، فطاردته فى كل مكان، كنا على شاطئ البحر فى واحدة من العواصم (القواصم)، حين مال أحد الحضور على أذن مظفر وأسرّ له بمعلومة، فإذا به يصيح واقفاً فى وهن ظاهر ليحتضننى ويقبّلنى: مرحباً بقريب بطل العروبة، ثم انسحب النواب ثقيلاً فى كرسيه، واحتضن العود منكفئاً عليه حتى احتواه فى صدره، وظل يضبط الأوتار، وهو يجهش بالبكاء، ثم رفع رأسه قليلاً قائلاً فى شجن نبيل: سأتلو عليكم نبأ سليمان بن خاطر، ولم نشعر بالوقت ونحن نتطوح كالذاكرين فى حلقة إنشاد صوفى، نميل حيناً مع نفحات النبوة فى سليمان الملك، وحيناً على إيقاع البطولة والشهادة فى سليمان الجندى حارس الحدود.
ظل الشاعر الكبير يمزج البكاء بالغناء، ويطرز أبيات القصيد ببارود الكلمات، صارخاً حين يكون الصراخ خلاصاً من وهدة العجز، ثم يتهدج بالعبرات، ويومئ بالإشارات فى سكون ينطق بالمعانى التى تتجاوز الكلمات.
وشعرت ساعتها أن كل ملائكة الكون تحلق فوق دوحة هذا اللقاء، ثم تمضى بعدها حاملة حجارة من سجيل، تضرب بها أفيال النظام العربى، فتجعله كعصف مأكول، يارب.. كيف ألهم هذا الفتى الشرقاوى البرىء والنبيل ضروع الإبداع بكل هذا الحليب؟؟!!
نعم إنه سليمان بن خاطر شهيد الحدود والقيود، ذلك الفلاح اليقظ، الذى أبى أن يتحول إلى خيال مآتة، أو يعترف بصلح يحول الدماء إلى ماء.
والذاكرة ملأى بالتفاصيل، التى تنطلق -الآن- من فوهة الرأس كالطلقات، أحاول لملمة الصور، فأغرق فيها، يمر العام تلو العام، حتى تصل ذكراه -اليوم- للعام السابع والعشرين، كم حدثت فيها من مواقف وأحداث وتحولات، وكان الختام ثورة لم يهدأ ضجيجها، ولم تصل لشاطئ بعد، وما زالت الحدود ساحة للقتل المجانى، ونهراً يتجدد من دماء الجنود المخضب بمسك الشهداء.
بدأت القصة بخبر أذاعه راديو العدو مساء السادس من أكتوبر 1985، يقول الخبر: (جندى مصرى مجنون يطلق النار على سياح إسرائيليين فى منطقة رأس بركة على الحدود مع مصر) ساعتها عرفت يقيناً أن سليمان خاطر هو المقصود، وأنه سيد العاقلين والحكماء، مهما فعل إعلام العدو فى تل أبيب وإعلام صهاينة القاهرة، فالمجنون هو الذى يقبل عار العجز وبؤس الاستسلام، والمجنون من يحمل سيف الخشب فى مواجهة ترسانة السلاح التقليدى والنووى، لقد أصر سليمان أن يحمى دفء البنادق فى أيدى الجنود، تذكرت قبل تجنيده حديثه الواثق عن القيادة فى مصر واستحالة الخيانة، ثم حديثه بعد تجنيده فى المنطقة (ج) وهو يؤكد فى مرارة خيانة الكل، لما رأى بعينيه الحدود المستباحة، والأرض المنزوعة السلاح، والمرور المتكرر على نقاط التماس بدعوى أنهم سياح، وفى اللحظة التى تطابقت فيها كرامة الوطن بكرامة الفلاح المصرى، انطلق صمت البندقية صراخاً، قال بالإنجليزية: stop، نظروا إليه بتعالٍ سافل، ثم بصقوا على العلم، واستمروا فى اختراق التبة، كان يعلم أنهم يتبعون جهاز الموساد وأنهم فى مهمة عمل لفك شفرة أجهزة الإشارة المصرية، عند هذه اللحظة سكت الكلام والبندقية تكلمت، وفعلها سليمان بن خاطر، اقتلع شوكة العدو، وحرر المساحة التى يقف عليها، والمنوط به حراستها كجندى، وأصبحت العملية ببساطة أن جندياً قام بدوره، هكذا تحدث فى المحكمة وهكذا عرف العالم كله حينها أن الصلح على الدم مستحيل، وغيرت دولة العدو من خططها واستراتيجيتها بالنسبة لمصر وللمنطقة وللأمن القومى للمشروع الصهيونى.
فى ذلك الوقت تداعت كل مصر وكل الشعوب العربية لوقفة ابن خاطر، وتشكلت لجان وهيئات، وصدرت كتب، وخرجت مظاهرات، وأصبحت خالتى الحاجة (سيدة) أم الشهيد بطلة أغلفة المجلات، وصارت الزيارة الأخيرة لشقيقه عبدالمنعم ونسيبه أحمد العوضى بمثابة الشهادة الختام على حياة البطل، ليلتها التقانى عبدالمنعم ونقل لى سلاماً وأحضاناً دافئة من سليمان، وشكره على وصول كتب الدراسة فى كلية الحقوق إليه ليستعد للامتحان.
ومع الكتب كان المصحف الذى أرسلته الدكتورة رضوى عاشور، وبعض رسائل التقدير والدعم النفسى والوطنى، وكان سليمان واثقاً أنه سيقضى القليل من الشهور ثم يفرج عنه، بعد امتصاص حالة الغضب الجماهيرى وحالة الثأر الصهيونى، وفى مساء اليوم التالى السادس من يناير كان الخبر الصدمة: انتحار سليمان.
لم تفلح كل سيناريوهات السلطة فى سبك الكذبة على أحد أو إقناع مواطن واحد بالانتحار، وكان نهر الدموع فى مشرحة زينهم كافياً لقلب السحر على الساحر، وانتفاضة الحناجر والقلوب ليظل سليمان رمزاً للبطل المغبون المغدور، ولذلك استقبلته الثقافة الشعبية كأسطورة فتى شرقاوى تمرد على الهوان، فاغتالته يد العجز فى غرفة للشفاء جعلوها نافذة للإعلام.
(يارب انتقم من حسنى مبارك) هكذا كشفت الحاجة سيدة رأسها بالدعاء.
هل مرت السنوات بعدها، أم مررنا نحن عليها؟ ولماذا ظل سليمان بن خاطر جرحاً نازفاً لم يتوقف حتى اليوم؟