جملة بليغة سمعتها ذات يوم من الراحل الكريم الدكتور «خليل صابات» فى مدار تعليقه على تراجع مستوى التعليم الجامعى، قال فيها: «إحنا بنمثّل جامعة». خليل صابات -لمن لا يعرفه- هو واحد من رواد البحث العلمى الصحفى، وأستاذ جامعى مرموق تتلمذ على يديه أجيال متعاقبة من العاملين فى مهنة الإعلام. «إحنا بنمثل جامعة»، أعجبتنى الجملة للغاية مُذ سمعتها، ولا أخفى عليك أننى أستدعيها أمام الكثير من المشاهد التى تتفاعَل فى حياتنا، وأجدها قادرة على تفسير حالة العوار التى أصابت الأداء فى الكثير من المجالات، يكفيك فقط أن تنزع كلمة «جامعة» من الجملة وتضع مكانها ما شئت من مؤسسات. فى شتى مناحى الحياة فى مصر، يغلب التمثيل والمشاهد المصنوعة على الواقع، لذلك تجد أن الواقع فى حياتنا يتراجع كل يوم لحساب «اللقطة».
بإمكانك أن تسترجع مشاهد الأداء داخل الحكومة ووزاراتها، أو المعارضة وقواها وأحزابها، أو البرلمان بجلساته العامة أو اجتماعات لجانه، أو الإعلام ببرامجه وحواراته، أو المدارس أو الجامعات بتفاعلاتها التعليمية، تذكر بعض الأنشطة التى رأيتها رأى العين فى المؤسسة التى تعمل بها، أو تابعتها عبر وسائل الإعلام، وستجد نفسك أمام «تمثيليات» تم صناعة مشاهدها، إما بهدف الهروب من الواقع أو «الغلوشة» عليه، لذلك قد تجد الناس تراقب وتتابع كل ما يحدث على مستوى المؤسسات المختلفة التى ذكرتها لك لكنهم لا يصدقونها. فهم يتعاملون معها كما يتعاملون مع أى مسلسل تليفزيونى مصنوع، يتفاعلون مع مشاهده، وقد يتأثرون بها، لكنهم فى النهاية يعلمون أنهم أمام أحداث مصنوعة، بعيدة عن الواقع، ويفهمون أن الأحداث تتدفّق على النحو الذى تعكسه مشاهد العمل بالطريقة التى يريدها المخرج، انطلاقاً من نظرية «المخرج عاوز كده»!.
لا توجد مشكلة واحدة فى مصر إلا ونظمت لمناقشتها مئات الندوات والمؤتمرات وورش العمل، تتكرّر الفعاليات تحت العنوان نفسه، وربما تكرّرت «الوشوش»، وردّدت الكلمات نفسها التى سمعناها من سنين، وتظل المشكلة دون حل، وتمكث -غير بعيد- فى انتظار ندوة أو مؤتمر أو ورشة عمل جديدة. أتدرى لماذا؟. لأننا ببساطة نستهلك مشاكلنا فى مشاهد تمثيلية أكثر مما نسعى إلى حلها، إننا نريدها هكذا حتى نجد مادة نستطيع أن نؤلف حولها مشهداً تمثيلياً. الفارق بيننا وبين غيرنا أننا نستهلك المشكلة، ونتركها فريسة للفتوى من جانب كل من هب ودب، لأننا نعالجها من خلال «مكلمة تمثيلية»، أما غيرنا فيضع المشكلة بين أيدى باحثين يعكفون عليها فى صمت ودون صخب حتى يجدوا لها حلاً واقعياً، يؤدى إلى النهوض بالحياة.
ستظل مشاكلنا تتعقّد وتتعقّد لأننا نعالجها بالتمثيل، لأننا ننشغل بـ«اللقطة» و«الصورة الحلوة» و«الصقفة المدوية» و«الكلمات الكبيرة الرنانة» أكثر مما نهتم بواقع وتفاصيل المشكلة على الأرض. سيطرة «اللقطة» على الأداء هى السر وراء كل مشاكلنا المؤجّلة. فالانشغال باللقطة يدفع من يتصدّى للمشكلة إلى عدم الاجتهاد فى حلها، وتأجيلها إلى المقبل. ظل الفنان الكبير يوسف وهبى يُردّد طوال حياته عبارة «ما الدنيا إلا مسرح كبير»، والحقيقة أن أجزاءً من الدنيا فقط هى التى تحولت فيها الحياة إلى مسرح كبير، وليس كل الدنيا، مشكلة يوسف وهبى فقط أنه رأى الدنيا بالعدسة المصرية «التمثيلية»!.