مأساة عائلة «عبداللطيف».. 22 عاماً فى المستشفيات لعلاج أب «ضرير» و3 أبناء
«محمد» ووالدته.. حين يقترن الفقر بالمرض
22 عاماً بالتمام والكمال عاشتها عائلة «عبداللطيف» متنقلة بين المستشفيات فى محافظات مصر المختلفة، لعلها تجد علاجاً لنجليها «محمد ورضا» المصابين بأنيميا الفول والثلاسيميا، لكنهم لم يجدوا علاجاً، وفى منتصف هذه الأعوام اكتشفوا إصابة ابنتيهم الأخريين بـ«الثلاسيميا» أيضاً، واحدة مُصابة والأخرى حاملة للمرض، بالإضافة إلى إصابة رب الأسرة بورم سرطانى فى المخ وفقده لعينه، ما اضطره للجلوس فى المنزل بعدما كان عاملاً بشركة الكهرباء، وتتحمل زوجته المعاناة وحدها.
«لم أكن أعرف أن زواجى من نجل عمى سيكون سبباً فى إصابة أولادى بهذا المرض، فقديماً كانت الفتيات تتزوج من العائلة دون خيار آخر، وفى إحدى الليالى فوجئت بأبى يقول لى إنك ستتزوجين ابن عمّك، وفى أيام معدودة تمت قراءة الفاتحة وبعدها بعامين تمت مراسم الزواج، عشت سعيدة كأى عروس إلى أن أنجبت ابنى محمد وبعد 6 أشهر من عمره اكتشفت إصابته بمرض أنيميا الفول»، بهذه الكلمات بدأت إيمان عبدالفتاح محمد عبداللطيف، البالغة من العمر 45 عاماً، مقيمة بمنطقة القنطرة البيضاء التابعة لكفر الشيخ، حديثها لـ«الوطن».
تتذكر الأم لحظة أن قال لها الطبيب إن ابنها مصاب، وقتها كانت لا تعرف ما هى الأنيميا، وظلت تنقل له دماً حتى عمر 16 عاماً وعندما شعرت بالخطر انقطعت عن نقل الدم له واكتفت بإعطائه علاجاً، وفى خلال رحلة علاجها لابنها الأكبر كانت قد أنجبت 3 أبناء آخرين هم «نسمة، زينب، ورضا» لم تنتبه الأم إلى إجراء تحاليل طبية للتأكد من أن أبناءها غير حاملين أو مصابين بالمرض، فكانت منشغلة بتربيتهم والمساهمة فى نفقاتهم من خلال عملها فى إعداد «الأرز والأسماك» وبيعها للجيران.
تقول الأم: «كنت بشتغل فى فرن بشوى سمك وبعمل رز وببيعه علشان أساعد فى نفقات الأولاد وتوفير الأدوية للكبير ومهتمتش أعمل تحاليل لنسمة وزينب لكن لما رضا اتولد بعدها بـ6 أشهر تعب فجأة وجاله سخونية ورُحت بيه للدكاترة وبإجراء التحاليل الطبية تأكدت إصابته بالثلاسيميا، أو أنيميا البحر المتوسط». تضيف «إيمان»: «سمعت الخبر ونزل عليّا كالصدمة، ماكنتش متخيلة إنى هعانى تانى، أنا عشت حياة عذاب متنقلة بين المستشفيات» بهذه العبارة وصفت الأم شعورها ليبدأ معها فصل جديد من فصول المعاناة: «بدأت أجرى برضا ابنى من وقت سماعى للخبر ولفيت بيه مستشفيات المنصورة، القاهرة، طنطا، الإسكندرية، لعلى أجد علاجاً يرحمه من نقل الدم المتكرر الذى يسبب أمراضاً لا حصر لها، كنت بتحجز بيه فى مستشفى أبوالريش فى القاهرة بالشهر والاتنين، لكن فى النهاية ملقتش علاج غير زرع النخاع، وده لازم يكون من أقرب الأقربين ليه وأخوه الكبير طبعاً مُصاب فمكانش ينفع نعمل العملية».
«محمد» مصاب بـ«أنيميا الفول».. و«نسمة ورضا» بـ«الثلاسيميا».. و«زينب» حاملة للمرض.. والأم: بعت البيت لأنفق على علاج الأسرة وننتظر رعاية «الصحة» لنا
تتابع الأم: «ظلت معاناتى من 22 سنة حتى الآن، ورضا فى الصف السادس الابتدائى لكن حالته تدهورت فلم يعد يذهب لمدرسته بسبب أن مفاصله دُمرت ولم يعد قادراً على الحركة، وأجريت عمليتين جراحيتين له إحداهما استئصال الطحال بسبب زيادة الحديد فى الدم من تكرار نقله، والأخرى هى استئصال المرارة، والعام الماضى لم يحضر الامتحان بسبب إجراء العمليات الجراحية».
لم تنتهِ معاناة الأسرة المنكوبة عند هذا الحد، بل إنها اكتشفت إصابة نجلتهما «نسمة» البالغة من العمر 22 عاماً بنفس المرض عقب زواجها وحملها رغم أنها لم تتزوج من قريب لها ليبدأ فصل آخر من فصول المعاناة: «خُضت حرب كبيرة مع أهل جوزى علشان كانوا عاوزين يجوزوا بنتى نسمة لابن عمها وأنا رفضت خوفاً على حياتها، مش عاوزة أكرر المأساة تانى، فحكموا علينا بترك ميراث زوجى والخروج دون شىء فخرجت بأولادى وزوّجتها شخصاً بعيداً، لكنى اكتشفت بعد زواجها مع أول حمل ليها إنها مُصابة بالثلاسيميا، تعبت مننا وجرينا بيها على المستشفى ونقلنا لها دم وقتها بـ500 جنيه لأنها ملهاش تأمين صحى».
يجلس رب الأسرة «الضرير»، السيد محمد عبداللطيف، البالغ من العمر 52 عاماً، فى أحد أركان المنزل، غير قادر على الحركة ولا الحديث، من شدة الألم ليؤكد أنه كان إنساناً طبيعياً يمارس عمله ويذهب إليه كل يوم مبكراً حتى عُرف بين العمال بنشاطه، رغم إصابته بمرض الكبد (فيروس «C»)، لكن فى إحدى الليالى فوجئ بتعرضه لحالة إغماء وأسرعت زوجته وأولاده به للطبيب، الذى طلب منهم إجراء عدد من الفحوصات الطبية وبعد إجرائها تبين إصابته بورم سرطانى فى المخ ومن هنا بدأت معاناة جديدة.
يقول السيد: «كنت تعبان بالكبد وبعض الحصوات الكلوية واستأصلت المرارة، لكن كنت بمارس عملى بكل، نشاط وفجأة أُصِبت بالورم السرطانى على المخ فتبدل حالى من رجل نشيط إلى شخص غير قادر على الحركة فأصبحت من أصحاب الأمراض الذين يترددون بشكل مستمر على المستشفيات المختلفة، لكن الأطباء أكدوا لى استحالة إجراء العملية وظللت أعالَج حتى فقدت بصرى بعد ضياع عصب العين وأصبحت مريض سرطان وضريراً فى نفس الوقت وما كان أمامى سوى الجلوس فى المنزل لأننى أصاب بغيبوبة من حين لآخر».
يصمت قيلاً ثم يعاود: «وزارة الصحة بتغلّبنى، أنا ورضا ابنى المُصاب بالثلاسيميا، أكتر اتنين بنعانى بين أفراد الأسرة، أنا أوقات أحتاج لنقل دم وعندما أذهب لمستشفى كفر الشيخ العام لا أجده، فأضطر لشرائه من الخارج ما يُحمّل زوجتى أعباء أكثر، ورضا لما راح مستشفى جامعة المنصورة لإجراء عملية استئصال الطحال كلفنا كتير، كنا بناخد ناس من هنا على حسابنا علشان يتبرعوا بالدم، وأوقات نسبة الأنيميا بتنخفض جامد وبنروح يقولوا مفيش دم لازم نروح لبنك الدم الإقليمى، وندفع 20 جنيه للحصول على الدم وبنشترى له علاج من الصيدليات الخارجية برضه، رضا بيعانى لأن مفاصله اتدمرت، مبقاش قادر يمشى، وبياكل ويشرب وهو قاعد مش بيتحرك».
«أنا عاوز وزير الصحة يراعينى ويبص لطفلى، أنا مش عاوز حاجة من الدنيا، أنا كده كده رايح، زوجتى بتصرف 100 جنيه يوم ما تيجى رايحة برضا مستشفى العبور، دا غير المحاليل اللى بتتعلق له فى البيت لما بيتعب، وابنى الكبير مش موظف، وبيشتغل سواق على توك توك بـ20 جنيه فى اليوم، علشان كده عاوز كشك ليه للمساعدة، أنا ممكن أموت الصبح فعاوز أطمن عليهم قبل ما أموت».. كانت هذه أمنية عبداللطيف الوحيدة.
بجانب رب الأسرة وعلى مقعد خشبى صنعته والدته لراحته، تكسوه مرتبة صُنعت من قصاصات القماش، يجلس رضا السيد عبداللطيف، البالغ من العمر 13 عاماً، طالب بالصف السادس الابتدائى، بجسد نحيل أنهكه تكرار نقل الدم وكثرة العمليات الجراحية، وقدمين غير قادرتين على الحركة، يقول: «أنا بطنى ورجلى ودماغى بيوجعونى علطول، ومش بقدر أمشى على رجلى، ولما تعبت مبقتش أروح المدرسة، بنقل دم من صغرى، وتعبت مبقتش أجرى ولا ألعب مع أصحابى ونفسى أروح مدرستى تانى، نفسى يبقى عندى عجلة وأرجع أقف على رجلى تانى وألعب وأجرى، نفسى أتعالج وأخف، ومنقلش دم، ونفسى أريح أمى، أنا عاوز أقول للريس أنا ابنك راعينى».