أصوات من السماء| محمد رفعت.. فقد نعمة البصر فرزقه الله جمال الصوت
محمد رفعت
"دقائق وينطلق مدفع الإفطار، ونستمع الآن إلى قرآن المغرب"، مذيع الربط بأستوديو الإذاعة، يحدثك عبر الأثير، فتتيقن أن "قيثارة السماء" سيطل عليك بصوت تقشعر له الأبدان وترتجف له القلوب، وتتلهف باشتياق لرائحة عطرة من روائح الشهر الكريم، وتعد أذنيك للاستماع في خشوع لمقرئ يتلو آيات محكمات تريح الصائم من عناء يوم طويل مرهق، ثم تصافح تلاوته الآذان، فينادي محمد رفعت لصلاة المغرب، وسرعان ما تأتي التلبية بالدعاء: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت".
64عامًا بقي فيها محمد رفعت، حاضرًا بصوته وروحه وخشوعه، وتلاوته التي تشعر أنها تفسِّر كل آية يتلوها، رغم رحيل الجسد عام 1950، ولولا فتوى شيخ الأزهر لمحمد رفعت، المولود في حي "المغربلين"، بجواز افتتاح الإذاعة بقراءته، لحُرم المصريون من صوت "معجزة التلاوة"، الذي كان يتحرى الحلال والحرام، ويبتعد بنفسه عن الشبهات، فخاف أن تكون تلاوته بالإذاعة فيها شبهة الحرام، لكونها أمرًا مستجدًا على الناس وقتها، إلا أنها كان أول صوت يشدو من أستوديو الإذاعة، بقوله تعالى: "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا"، فسمعته إدارة الـ"بي بي سي"، وعرضت عليه تسجيل القرآن، فرفض ظنا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين، فعاد واستفتي الإمام المراغي، فشرح له الأمر وأخبره بأن ذلك "غير حرام"، فسجَّل رفعت على الإذاعة البريطانية، سورة مريم.
الشيخ رفعت، فقد نعمة البصر في طفولته، فرزقه الله جمال الصوت وعذوبته، فحفظ القرآن في سن الخامسة، حينما التحق بكُتاب مسجد "فاضل باشا" بدرب الجماميز في حي السيدة زينب، بعدها درس علم القراءات وعلم التفسير، ثم المقامات الموسيقية، فالرجل مثال الإخلاص في العمل، وتلا القرآن عن دراسة وعلم ومعرفة بكل علومه، فقال عنه الأديب محمد السيد المويلحي في مجلة الرسالة: "سيد قراء هذا الزمن، موسيقيّ بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا"، كما وصف الموسيقار محمد عبدالوهاب صوت الشيخ محمد رفعت بأنه "ملائكي يأتي من السماء لأول مرة".
شيخ التلاوة، الذي أصيب في أواخر سنوات عمره بسرطان الحنجرة، كان إنسانًا معتزًا بنفسه وكرامته، فرفض عروضًا من رؤساء وملوك دول لعلاجه، رغم أنه كان لا يملك تكاليفه، وقال كلمته الشهيرة: "قارئ القرآن لا يهان"، حتى رحل عن عالمنا في الـ19 من مايو 1950، وتكون آخر كلمات في شرف وحب محمد رفعت، من مكان افتتحه بصوته، فنعته الإذاعة لمستمعيها يوم رحيله: "أيها المسلمون، فقدنا اليوم عَلَمًا من أعلام الإسلام".