رئيس الجمعية الجغرافية: الدولة تسعى لتحسين التعليم والصحة والخروج من الوادى الضيق.. والمشكلة السكانية لن تحل «مادامت الحنفية مفتوحة»
«الحسينى» يتحدث إلى «الوطن»
حذر الدكتور السيد الحسينى، رئيس الجمعية الجغرافية المصرية، ومقرر لجنة الجغرافيا بالمجلس الأعلى للثقافة، من خطورة الانفجار السكانى، مؤكداً أنه يمثل أكبر خطر على الأمن القومى لمصر، موضحاً أن عالم الجغرافيا الشهير الدكتور محمد عوض محمد حذر منذ 82 عاماً من هذه القضية، وأصدر مفتى الديار وقتها فتوى تحل تنظيم النسل، منوهاً بأن تقاعس الحكومات المتتالية عن مواجهة الأزمة إيثاراً للسلامة السبب فى تفاقم الأزمة، لا سيما أن عدد السكان مرشح لأن يصل 157 مليون نسمة بحلول 2050. وأضاف «الحسينى»، فى حوار لـ«الوطن»، أن «الحكومة الحالية تسعى لتحسين التعليم والصحة والخروج من وادى النيل الضيق، وهو أمر لم نشهده فى الـ70 عاماً الماضية، لكن لا يوجد حل جذرى للمشكلة السكانية ما دامت الحنفية مفتوحة». إلى نص الحوار:
د. السيد الحسينى لـ"الوطن": حملات "تنظيم الأسرة" من "انظر حولك" إلى "2 كفاية" فشلت فى تحقيق أهدافها
ما أكثر القضايا إلحاحاً للأمن القومى لمصر فى هذه المرحلة؟
- التحدى الأكبر الذى يواجه مصر فى تقديرى هو الانفجار السكانى، وهو تحد يفوق أى خطر خارجى ويفوق خطر الإرهاب، لأنه يعنى ببساطة أن نمو عدد السكان يفوق بمراحل نمو الموارد، فالإرهاب إلى زوال بعد عام أو عامين وينتهى وتعود الأمور إلى طبيعتها، أم السكان فتتزايد بسرعة الغزال والموارد الاقتصادية تسير كالسلحفاة، ما يترتب عليه انخفاض كبير فى مستوى المعيشة، وحذر الدكتور محمد عوض محمد منه منذ 82 عاماً فى كتابه «سكان هذا الكوكب» الذى صدر عام 1937، وقال فيه إن مصر مقبلة على مشكلة سكانية، وفى إطار رغبته لمواجهة هذه المشكلة فى بدايتها أخذ فتوى من الشيخ عبدالمجيد سليم، مفتى الديار المصرية حينذاك، وشيخ الأزهر لاحقاً، مؤداها أن تنظيم النسل حلال، وبعد ذلك تبنى الدكتور محمد صبحى عبدالحكيم، أستاذ الجغرافيا البشرية ورئيس مجلس الشورى الأسبق، هذه المشكلة فى العديد من المحاضرات العامة وعبر وسائل الإعلام، لكن ظل الوضع يتفاقم والمشكلة تزداد تعقيداً.
عدد السكان يتزايد بسرعة "الغزال" والموارد الاقتصادية تسير كالسلحفاة.. ومصر التى علَّمت العالم الكتابة ثلث سكانها أميون
كم كان عدد سكان مصر حين أطلق الدكتور محمد عوض تحذيره؟
- فى تعداد 1897 كان عدد السكان نحو 10 ملايين نسمة، وجملة الأراضى الصالحة للزراعة نحو 6 ملايين فدان، الآن بعد نحو 120 عاماً، عدد السكان 100 مليون ومساحة الأرض الصالحة للزراعة لا تتجاوز على أقصى تقدير 10 ملايين فدان، أى إن عدد السكان ازداد بمقدر أكثر من عشرة أمثال ما كانوا عليه، بينما لم تصل مساحة الأرض الزراعية إلى الضعف، وفى حال استمرار النمو السكانى بمعدله الحالى سيبلغ السكان فى العام 2050 «157 مليوناً».
وهل المشكلة السكانية تقتصر على المعدل العالى للإنجاب فقط؟
- مشكلة الزيادة السكانية لها 3 جوانب: الأول هو معدل النمو المتسارع الذى يقدر حالياً بـ2.5%، أى إننا نزيد بنحو 2.5 مليون نسمة سنوياً، والثانى هو التركز السكانى فى وادى النيل الضيق، وفيه يحتشد سكان مصر إلا قليلاً فى مساحة لا تتعدى 5% من مساحة البلاد على أكثر تقدير، والباقى (الصحراء الشرقية والغربية وسيناء) خال تماماً من السكان، والثالث يتعلق بالخصائص السكانية المتردية، ففى عالم يموج بتكنولوجيا المعلومات والتقدم المذهل، يعيش الغالبية العظمى من سكان مصر فى معاناة فى الصحة والتعليم والأمية والبطالة وتدنى معدلات الإنتاج، الإنسان اليابانى وحده هو العنصر الأهم فى نهضة اليابان الفقيرة جداً فى مواردها الطبيعية، من هنا تأتى التنمية البشرية أى الاستثمار فى البشر هو التحدى الأعظم لنهضة مصر وتقدمها.
لكن إذا كانت المشكلة مطروحة منذ أكثر من 80 عاماً، لماذا تقاعست الحكومات المختلفة عن مواجهتها؟
- لم تجرؤ أى حكومة مصرية، سواء ملكية أو جمهورية، منذ 1937 وحتى الآن على مواجهة هذه المشكلة، فمن هو المسئول الذى يستطيع أن يقول للناس: توقفوا عن الإنجاب؟! السياسيون يخافون من رد الفعل الشعبى الغاضب ويُؤثرون السلامة.
وماذا تفعل الحكومة لمواجهة هذه المشكلة؟
- الحكومة الحالية تبذل جهداً فى نقطتين أساسيتين، الأولى: الاهتمام بتحسين خصائص السكان، من خلال توفير سكن آدمى لكل مواطن وإصلاح نظامى التعليم والتأمين الصحى الشامل، والثانية: هى محاولة الخروج من وادى النيل الضيق الذى حبسنا أنفسنا فيه لآلاف السنين، من خلال الاهتمام بالأقاليم والأطراف بمشاريع ضخمة فى الصعيد وسيناء والعلمين وبناء العاصمة الإدارية الجديدة والاهتمام بسواحل البحر الأحمر وبناء شبكة طرق مذهلة، فضلاً عن زراعات شاسعة من طراز عالمى من المزارع فى الصحراء الغربية والمزارع السمكية وغيرها من مشروعات هائلة خارج وادى النيل والدلتا، وهو أمر لم تشهده مصر على مدار الـ70 عاماً الماضية، هذه جهود عظيمة لكن أثرها سوف يظل محدوداً ما لم تعالج الحكومة مصدر المشكلة الأساسى وهو النمو الهائل فى معدل نمو السكان، حيث «لا يوجد حل جذرى، واحنا سايبين الحنفية مفتوحة»، الغريب فى الأمر أن مصر حققت نجاحاً فى معدلات الخصوبة، وإن كان محدوداً فى العشرين عاماً الماضية، وانخفض من 5 أطفال لكل سيدة فى المتوسط إلى 3 ثم عاد المعدل إلى 5 مرات أخرى.
ما الحل؟
- هذا سؤال مهم ويحتاج لدراسة، لكن المؤكد أن جهد الدولة غير كاف، وكل الحملات الإعلامية التى أطلقتها الدولة منذ الستينات وإلى الآن، من أول «انظر حولك» وحتى «اثنين كفاية»، فشلت فى تحقيق الهدف منها، لأنه على ما يبدو أن هذه الحملات لا تخاطب بشكل مناسب الفئات الأكثر إنجاباً وهى كما قلت الأكثر فقراً وتعليماً، وكثير منها يؤمن بأفكار بالية، مثل «الخلف عزوة»، أو اعتقاد المرأة البسيطة أن كثرة الأولاد تمنحها حصانة ضد الطلاق، ولاحظ تدنى إنتاج الفرد وتوزيعه على عدد أكبر من المعالين مقارنة بالدول المتقدمة ونصف المتقدمة، ففى أوروبا مثلاً تنجب الأسرة طفلين على الأكثر، ويعمل الزوج والزوجة، وهذا يعنى أن كل فرد يعول فرداً آخر، وقد يكون طفلاً واحداً فيصبح نصف فرد، أما فى مصر فيعول رب الأسرة فى الأعم والأغلب 5 أفراد فى المتوسط، وهذا يعنى تعليماً أقل ورعاية صحية أقل وتغذية أقل وهكذا، ناهيك عن الأمية الأبجدية! فهل يعقل أن مصر التى اخترعت الكتابة يكون ثلث سكانها أميين؟! ونحو نصف نسائها أميات؟ ومع هذه الأمية يصعب الحديث عن المستقبل أو طفرة فى الاقتصاد أو حتى محاربة الإرهاب، لكل هذه الأسباب على الدولة أن تتصدى لهذا الخطر بكل أسلحتها الإعلامية والدينية والثقافية والتشريعية ونستفيد من تجارب الدول الأخرى.
وماذا فعلت الدول الأخرى؟
- كل دولة كان لها مدخل مختلف، بعضها وصل به الأمر إلى تعقيم الرجال لمواجهة خطر الزيادة السكانية؛ كما فكرت أنديرا غاندى رئيسة وزراء الهند، ونتج عن ذلك سقوطها فى الانتخابات، وهناك دول إسلامية مثل تونس وإندونيسيا وتركيا تعاملت مع هذه المشكلة وحققت بعض النجاح، فكثير من الدول عاقبت من ينجب أكثر من طفل برفع الدعم عنه، وبعضها وضع سياسة ثواب وتحفيز لمن لا ينجب وعقاب لمن ينجب أكثر من طفل وهكذا، وفى نهاية الخمسينات وبداية الستينات كانت الصين (البالغ عددها 1.4 مليار نسمة) تنجب شهرياً ما يعادل سكان مصر وقتها، ففرضت الحكومة على المواطنين أن تنجب كل أسرة طفلاً واحداً فى المدينة وطفلين فى الريف، ولم تتراجع عن هذه السياسة إلا فى العام الماضى، عندما سمحت لأهل المدن بإنجاب طفلين دون عقاب.
لماذا تقول بثقة إن «الإرهاب إلى زوال» ولا تعتبره خطراً كبيراً على الأمن القومى؟
- لأن الإرهاب ينحسر بالفعل ولا يستطيع الإخوان ولا رعاتهم فى الخارج النيل من الشعب المصرى، ما دامت الجبهة الداخلية متماسكة على النحو الذى كانت عليه فى 30 يونيو، والتنمية والتنوير كفيلان بالقضاء على الإرهاب، ونحن فى حاجة لتشكيل العقل والاهتمام بالشباب المتطرف، ليس بمعنى أن نصالح الإخوان ولكن أن نجفف منابعهم ونقطع دابرهم بالحوار الدائم مع الشباب حتى لا ينساق لأفكارهم الهدامة.
وما الأخطار الأخرى التى تحيق بالأمن القومى المصرى؟
- هناك انقلاب فى العمق الاستراتيجى لمصر خلال السنوات الأخيرة، بمعنى أن دول الجوار التى كانت خط دفاع عن الأمن الوطنى تحولت للأسف إلى مصدر خطر على الأمن الوطنى لمصر، السودان إلى وقت قريب خلال حكم الرئيس البشير، وليبيا بعد الإطاحة بمعمر القذافى، غزة خلال حكم حماس، كل هذا وضع ضغوطاً على مصر، ولكن الأمور تحسنت بعض الشىء ونأمل المزيد، ويرجع ذلك إلى نجاح القيادة السياسية المصرية فى التقليل من الآثار السلبية الناتجة عن ذلك، ففى ليبيا يجرى بسط سلطة الجيش الليبى الوطنى على معظم ربوع ليبيا والقضاء على الميليشيات الإرهابية المسلحة فى غرب البلاد، وفى السودان انتفض الشعب مطالباً بالخلاص من حكم البشير، وبدأت بوادر تحقيق قوى التغيير والجيش لآمال شعب السودان الشقيق. الحقيقة أن مصر شهدت فترة عصيبة بعد ثورة 25 يناير عانت فيها من تحديات جديدة بالإضافة إلى تحديات متراكمة عبر آلاف السنين.
وما التحديات المتراكمة عبر آلاف السنين؟
- مصر ورثت ثلاث آفات منذ نشأتها الأولى، الديكتاتورية والبيروقراطية والمركزية.
وكيف نشأت الديكتاتورية؟
- الفرعون بدأ مهامه كموزع للمياه ثم أصبح مالكاً لها، وكل من يخرج عن النظام المتبع فى توزيع المياه بما يضمن لمن تقع أرضه فى نهاية الترعة مثلما يحظى من تقع أرضه فى أول الترعة يلقى العقاب الأليم، كل هذا ساهم فى تمكنه من ممارسة سلطات مطلقة، وتمتع بنوع من القداسة كنصف إله وهو وضع يتغير الآن، فنحن فى بدايات عصر جديد ينشد الحرية والديمقراطية بعد ثورة عارمة فى 30 يونيو 2013، أزاحت نظاماً ظل جاثماً على أرض مصر لمدة عام وسقط النظام وجماعته سقوطاً مروعاً، واستعاد شعب مصر حريته وبنى نظام الحكم ومؤسساته عبر انتخابات حرة نزيهة بتضامن الشعب مع جيشه وشرطته فى أبهى صورة.
وهل نشأت البيروقراطية المركزية فى نفس الظروف؟
- نعم، فالبيروقراطية ارتبطت بنشأة الدولة حول النيل وحاجة الفرعون لتنظيم الرى، فمع إنشاء سلطة (الفرعون) ليشرف على توزيع المياه، احتاج لجيش من الموظفين، ومع الوقت أصبحت مصر صاحبة أكبر جهاز إدارى مقارنة بعدد السكان، وساهم فى تضخم هذا الجهاز، الذى يصل عدده الآن لأكثر من 5 ملايين موظف، السياسات التى اتبعها الرئيس جمال عبدالناصر بتعيين كل الخريجين بغض النظر عن أماكن توظيفهم أو تخصصاتهم. أما المركزية فتعنى أن العاصمة تستحوذ على كل شىء، وكانت ولا تزال تضم كل ما يحتاجه الناس أو يتطلع إليه الفرد، ففيها معظم المصالح الحكومية والجامعات والمدارس والأعمال والمهنيين والحرفيين والمراكز الثقافية والترفيهية، وظل هذا الوضع حتى الآن على هذا النحو، والفرق بين العاصمة وأى مدينة أخرى فى الأقاليم شاسع.
لكن المسألة لا تتعلق فقط برئيس الدولة فرئيس أى مؤسسة فى مصر يحظى بصلاحيات شبه مطلقة وحولها يدور كل دولاب العمل؟
- هذا أمر موجود فى الشرق كله وليس مصر وحدها، والموظف مثلاً فى اليابان، وهو بلد ديمقراطى، لا يفعل شيئاً إلا بالرجوع لرئيسه، وأذكر أنى كنت فى زيارة لليابان وطلبت شيئاً من أحد الموظفين، فاستأذننى فى الرجوع لرئيسه أولاً ووافق رئيسه على طلبى، وعندما طلب زميل لى نفس الطلب، عاد الموظف مرة أخرى لرئيسه ولم يستخدم القياس.
هل تتفق مع الدكتور جمال حمدان فى أن موقع مصر عبقرى؟
- بالتأكيد وصف موقع مصر بـ«العبقرى» أتفق معه تماماً، ويرى «حمدان» أن تاريخ مصر نتاج معادلة بين الموضع والموقع، والموضع هو مصر أرضاً وسكاناً: الإنتاج الاقتصادى ونوعية السكان إلخ، لذا يرى حمدان أن مصر كانت «أعظم إمبراطورية وأطول مستعمرة فى التاريخ»، لأن من يتحكم فى موقعها الفريد يتحكم فى العالم القديم (أفريقيا وأوروبا وآسيا)، ولذلك كانت مصر مستهدفة عبر تاريخها، وحين تضعف تُحتل وحين تقوى تصبح إمبراطورية، كما حدث فى عهد محمد على باشا حين وصلت مصر إلى الدرعية فى الجزيرة العربية وفى الشام حتى عكا ودخلت إلى عمق تركيا فى أوروبا وحتى منابع النيل فى أفريقيا.
هل التغير المناخى خطر على مصر؟
- ليس على مصر وحدها ولكن على كل دول العالم المطلة على البحار والمحيطات، وهذا الخطر مقبل لا محالة فى المستقبل، وهناك جزر فى المحيط الهندى غرقت مساحات كبيرة منها بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر، وهى فى طريقها للغرق كلية مع استمرار التغير المناخى، وأقترح أن نعمل «خط بارليف» جديداً على الساحل الشمالى حتى نحمى أنفسنا من خطر ارتفاع مياه البحر ونحمى الدلتا على غرار هولندا، التى استطاعت ضم مساحات شاسعة من المحيط بواسطة سياج يحول دون وصول مياه البحر إلى هذه المناطق المنخفضة عن مستواه.
بعض الدول لجأت إلى تعقيم الرجال لمواجهة التضخم السكانى والكثير منها عاقبت من ينجب أكثر من طفل بحرمانه من الدعم
عددنا تضاعف 10 مرات فى 120 عاماً ومساحة الأرض الصالحة للزراعة لم تتجاوز ضعف ما كنا عليه عام 1897