أبوالغيط: الإصلاح الديني لا يخص المؤسسات الدينية بمفردها
أحمد أبو الغيط
ألقى أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية كلمة بمناسبة افتتاح الدورة 22 لمؤتمر وزراء الثقافة العرب.
وقال أبو الغيط: «يطيب لي أن نلتقي مجددا في هذا اليوم الذي يحفل بالأحداث المهمة فبعد افتتاح قمة اللغة العربية التي سعدت بحضورها إلى جانبكم، ها نحن الآن نواصل أعمالنا لبدء الدورة 22 لمؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي، هنا في اكسبو دبي، واسمحوا لي باسمكم جميعاً التقدم بالشكر لدولة الإمارات العربية المتحدة لاستضافتها الكريمة لهذه الدورة حرصها على توفير كل الظروف المناسبة لإنجاحها».
اللغة وعاء الثقافة
وأضاف: «ولا يفوتني في هذا الصدد، الإشادة بالاختيار الحكيم بعقد أعمال هذه الدورة بالتزامن مع قمة اللغة العربية، وذلك للارتباط الوثيق بين اللغة والثقافة، فاللغة هي وعاء الثقافة.. وهي أداة التفكير، وناقل الأفكار.. وهي المرآة العاكسة لازدهار الثقافة وثرائها».
وتابع: «نستأنف اليوم أنشطتنا حضوريا بعد أن حلّت بالعالم جائحة لم يُشهد لها مثيلاً من قبل، اضطرتنا إلى التواصل عن بعد لمناقشة الأوضاع الثقافية في ظل هذه الظروف الصحية الاستثنائية، وأشيد هنا بمخرجات الاجتماع الافتراضي المنعقد يوم 11/5/2020، والذي تناول بعض التوصيات الهامة لحماية العاملين في القطاعات الإبداعية والثقافية من أفراد ومؤسسات، ودعم الإنتاج الثقافي الرقمي وغيرها».
العالم العربي مر عليه عشرية صعبة
وأشار: «لقد مرت على العالم العربي عشرية صعبة، لا زالت آثارها تتداعى، وتأثيراتها تتدافع وتتوالى على المجتمعات.. وبعض هذه الآثار محزن وباعث على الأسى الشديد.. فقد طال التدمير الإنسان والعمران.. وتفككت دول ومجتمعات.. وهُجِّر بشرٌ من منازلهم.. وخُربت حواضر ومدن، غير أننا نتوقف، في هذا المقام، أمام آثار هذه العشرية الصعبة.. على الثقافة والفكر.. وهي في نظري آثار ليست كلها سلبية.. فأوقات الأزمة كثيراً ما تكون دافعاً للتأمل والمراجعة.. والزمن الصعب يدفع أهله لإعمال الفكر بحثاً عن الحلول.. ويحملهم على الخروج من أسر المسلمات والأفكار المعلبة سعياً وراء مخرج واقعي وعملي من الأزمة».
أبو الغيط: الجاري خلال السنوات الأخيرة بعث حركة الإصلاح الديني من جديد
وأكد أبو الغيط على أن هناك ثلاث نقاط رئيسية سيتحدث عنها أولها هو أن ما جرى لهذه الأمة خلال السنوات الأخيرة كان باعثاً وراء حركة قوية للإصلاح الديني وتجديد النظر في التراث، موضحا أنها ليست تلك هي المرة الأولى التي تظهر فيها حركةٌ كتلك بكل تأكيد، فالإصلاح حاضر على أجندة الفكر العربي منذ زمن نهضته الأولى، وحمل لواءه أعلامٌ مثل رفاعة الطهطاوي وابن باديس ومحمد عبده وغيرهم، غير أن مشروع الإصلاح تعثر وتأجل، وطغت عليه مشروعات فكرية وثقافية وسياسية أخرى، مثل مشروع التحرر الوطني، وكذلك مشروع العروبة والوحدة، واليوم يعود الإصلاح الديني ليحتل مكاناً بارزاً على أجندة الثقافة العربية، وبقدر غير مسبوق من الإلحاح، وهو مشروع يشترك فيه المثقف العربي مع صانع القرار، ولا يتم سوى بعملهما معاً، وبفكرهما المشترك، فهو مشروع ثقافي وفكري في المقام الأول، ولكن له جانباً سياسياً لا يمكن إغفاله.
الإصلاح الديني وتجديد النظر إلى التراث قضية شاملة
وأوضح أن الإصلاح الديني وتجديد النظر إلى التراث قضية شاملة، لا تخص المؤسسات الدينية وحدها، ولا المثقفين دون غيرهم، فهي قضية مجتمع يعيد النظر في طريقة تناوله لتراثه، ويخوض مراجعة صعبة لتجليات الفكر الديني في مختلف أوجه حياته، واضعاً في الاعتبار ما شهدناه جميعاً من آثار مدمرة للفكر المتطرف، وما يُمكن أن يفعله هذا الفكر إن هو تمكن من عقول الشباب وهيمن على وعيهم، أو إن استطاع السيطرة على مجتمع من المجتمعات وتحكم في مصيره.
وتابع: «وظني أن تجربة السنوات العشر الماضية قد عززت حالة المراجعة هذه .. ليس لدى المثقفين وحدهم، وإنما لدى المواطن العادي الذي صار يُدرك الخطورة الشديدة التي ينطوي عليها الفكر الديني المنحرف أو الضال.. بل صار يعرف الوسائل التي يتبعها أصحاب هذا الفكر في التسلل إلى المجال العام، توطئة للهيمنة عليه، وإلغاء الجميع».
حالة محمودة من الجدل بوسائل الإعلام
واستطرد: «والحقيقة أن من يُراقب منابر الإعلام، بوسائطه المختلفة.. بما في ذلك الإعلام الذي لا يتبع مؤسسات رسمية.. يرصد حالة محمودة من الجدل.. وشجاعة في طرح الأسئلة الصعبة.. التي ظلت لزمنٍ طويل مكبوتة ومسكوت عنها، فيما يخص التعامل مع التراث الديني، وقضايا الأصالة والمعاصرة وغيرها.. وظني أن هذه الحالة من الجدل تُعد مظهراً صحياً يتعين تعزيزه.. فالإصلاح الديني يتغذى على حرية الفكر.. وتصادم الأفكار والآراء مطلوبٌ لتجديد الثقافة، وكسر حالة الهيمنة التي كان البعض يريد فرضها على المجتمعات باسم الدين».
القضية الثانية تخص مفهوم الدولة الوطنية
أما القضية الثانية.. فأوضح أنها تخص مفهوم الدولة الوطنية، فهو مفهوم برز على صدارة الأجندة الفكرية والسياسية أيضاً خلال العشرية الفائتة، وقد انتبهتْ إليه أيضاً «الخطة الشاملة للثقافة العربية» والتي سيناقشها السادة الوزراء في هذا الاجتماع.
وأشار: «في عبارة موجزة أقول إن تطورات الأوضاع في المنطقة العربية قد كشفت، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن اهتزاز مفهوم الدولة الوطنية لدى الشعوب هو أول الطريق إلى التفكك والدمار، وهو البوابة التي تنفذ منها أجندات التقسيم والتفتيت على أساس ديني أو عرقي أو طائفي أو مناطقي».
وتابع: «لقد خاضت الدولة الوطنية العربية مسيرة صعبة منذ الاستقلال، ومشكلاتها والتحديات التي تواجهها لا تخفى علينا جميعاً، وإخفاقاتها أيضاً نعرفها ونستوعب أبعادها، على أنها تظل المشروع السياسي والثقافي الوحيد الذي يحفظ للمجتمعات استقرارها، ويُتيح لها أسباب التنمية والتقدم، خاصة وأن المشروعات البديلة تنطلق من أرضية التفتيت حتى وإن رفعت شعارات الأمة أو الخلافة».
الدولة الوطنية ليست مشروعاً سياسياً فحسب وإنما حقيقة ثقافية
واستطرد: «الدولة الوطنية ليست مشروعاً سياسياً فحسب، وإنما هي حقيقة ثقافية واجتماعية أيضا، فاستمرارها وبقاؤها مرهون بأن تظل هذه الدولة حاضنة لمواطنيها كافة من دون تفرقة، وأن تكون محلاً أساسياً للولاء والانتماء لدى كل أبنائها، وأقول إن على المثقف العربي دوراً في تعزيز هذا المشروع، وفي الحفاظ على الهوية الوطنية وصونها وحمايتها من تسلل الفكر الطائفي الخبيث، الهادم للأوطان والمجتمعات».
وأكمل: «أما القضية الثالثة فتتعلق بانفتاح الثقافة العربية على الثقافة العالمية.. وقد أبرزت تجربة السنوات العشر الماضية أن انغلاق المجتمعات، وتقوقعها يجعلها أكثر عُرضة للوقوع بسهولة تحت أسر الفكر الواحد والرأي الواحد.. فتيارات الظلام والتطرف تنشط في أجواء الانغلاق.. حيث لا تجد منافساً لها، ولا تصادف من يتحدى مقولاتها... لهذا تحارب هذه التيارات كل انفتاح على الثقافات الأخرى، بدعوى الحفاظ على الهوية في مواجهة الغزو الفكري.. وهو قول حقٍ يُراد به باطل.. فالهوية تتجدد بالتنوع.. وتزدهر بالانفتاح والتواصل».
وقال إن تعزيز تواصلنا مع الثقافة العالمية، بمختلف روافدها العلمية والأدبية.. هو ضرورة مُلحة.. ويتطلب هذا تواصل في الأساس بزوغ حركة ترجمة نشطة نرصد بعض المؤشرات الإيجابية على تصاعدها، وإن لم يكن بالمستوى المأمول.
وأشار إلى أنه :«كما تقتضي مواكبة مستجدات الثقافة والفكر في العالم، حركة تأليف تتوزع على روافد الثقافة المختلفة، ولا تقتصر على فرعٍ دون غيره، وهنا، فإن المنتج العربي لا زال أيضاً دون المأمول، سواء من حيث الكم أو التنوع أو المستوى، وبحسب اليونسكو، فإن نسبة إسهام العالم العربي في إنتاج الكتاب لا تتجاوز 0.9% من الإنتاج العالمي خلال الربع قرن المنصرم، فيما النسبة في أوروبا هي 50%، وعدد كتب الثقافة العامة التي تُنشر سنوياً في العالم العربي لا يتجاوز 5 آلاف عنوان، بينما يصدر -مثلاً- في الولايات المتحدة نحو 300 ألف عنوان سنوياً، وهي فجوة كبيرة، يزيد من حدتها أيضاً ضعف المحتوى العربي على الفضاء الرقمي».
وأوضح أن تنشيط حركة الترجمة والتأليف والنشر، إضافة إلى تعزيز المحتوى العربي الرقمي، يُعد ضرورة لا غِنى عنها للانخراط في تيار الثقافة العالمية من موقع الندية والإسهام والمشاركة الفعالة. مختتما أن الإصلاح الديني، ومفهوم الدولة الوطنية، والانفتاح على الثقافة العالمية... ثلاث قضايا مترابطة متشابكة، أتصور أن لها أهمية كبيرة في حاضر الثقافة العربية ومستقبلها.. ورأيتُ أن أضعها أمامكم في افتتاح هذا الاجتماع المهم.. الذي أرجو له كل التوفيق.