الدكتور عمرو الورداني يكتب: جوامع النعم
د. عمرو الورداني
وقفت كثيراً بالتأمل فى قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم، عن سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى معرض ذكر نعم الله عليه: «فُضِّلتُ على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم... الحديث»، ومعنى أنه صلى الله عليه وسلم حاز جوامع الكلم -كما قال الإمام الزهرى- أى إنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالقول الموجز، القليل اللفظ، الكثير المعانى، ففتح الله عليه باباً واسعاً من الفصاحة والبيان وحسن الكلام.
ولم يكن له صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فقط، بل لاحظت أنه صلى الله عليه وسلم حاز العديد من الجوامع مثل: جوامع الدعاء؛ فكانت كلمات دعائه جامعة لكل خير، وكان له أيضاً جوامع الأخلاق؛ فكل الأخلاق الفاضلة جمعها صلى الله عليه وسلم، وهذا قذف فى قلبى معنى آخر يتسق مع ما سبق ذكره لفظاً ومعنى، وهو أنه صلى الله عليه وسلم حاز جوامع النعم.
ومعنى أنه صلى الله عليه وسلم حاز جوامع النعم، أى إن الله تعالى منَّ عليه بكل نعمة وأوصلها إليه كاملة بل فى تمام منتهى النعمة، هذا من ناحية، كما جعله الله فى ذاته صلى الله عليه وسلم نعمة؛ أما نعمه تعالى على نبيه فهى كثيرة لا تحصى، عددها الله فى مواضع كثيرة من كتابه، ولنتدبر مثلاً سورة الضحى فنجد فيها عجباً من مواضع إظهار نعم الله على نبيه، انظر معى فى قول الله تعالى: «وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحدِّثْ»، ولم تقتصر النعم على هذا وفقط بل ممتدة إلى يوم البعث وما بعده؛ فيخفف الله به عن الناس، ويرضيه فى أمته ولا يسوؤه، إلى آخر النعم التى ينطبق عليها قوله تعالى: «وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحصُوهَا»، فقد جمع الله كل تلك النعم على حبيبه صلى الله عليه وسلم، فما من نعمة إلا أعطاه الله مفاتحها وقَسْمَها، ففى صحيح البخارى عن معاوية بن أبى سفيان يقول صلى الله عليه وسلم: «... وإنَّما أنا قاسِمٌ ويُعْطِى اللَّهُ... الحديث».
وهذه النعم التى منَّ الله تعالى بها على نبيه قام النبى بشكرها أكمل شكر، فلما سئل عن وقوفه طيلة الليل حتى تورمت قدماه أجاب: «أفلا أكون عبداً شكوراً!».
أما الجانب الآخر من جوانب حصره صلى الله عليه وسلم لجوامع النعم أن الله جعله نعمة فى ذاته، وهذه النعمة واضحة فى قوله تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ... الآية»، وهذه النعمة لا تختص بأحد دون أحد بل هى نعمة عامة لكل الخلق تصديقاً لقوله تعالى: «ومَا أرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةُ لِلعَالمين»، وهذه النعمة التى منَّ الله بها علينا تستوجب علينا شكراً على الدوام على نعمة رسول الله، التى تحفظنا فى الدنيا (ومَا كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم وأنْتَ فِيهم)، وترفعنا فى الآخرة (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)، ويكون ذلك بثلاثة أمور:
1- إدراك نعمة رسول الله، وحمد الله على هذه النعمة: بأن تدرك معنى الشهادتين، وقف مع كلمة الشهادتين، من حيث التثنية، ومن حيث معنى الشهود: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فرسول الله شطر الإسلام، وأنت تقول الحمد لله على نعمة الإسلام إذا أنت تحمد الله على نعمة رسول الله.
2- بعد إدراك النعمة التى بها ينكشف لك عظيم فضل الله بأن جعلك من أمة خير خلق الله لا بد أن يذوق قلبك معنى نعمة رسول الله: فتستشعر قوله صلى الله عليه وسلم «إنما أنا رحمة مهداة».
3- كثرة الصلاة والسلام عليه.
فالحمد لله على نعمة رسول الله جامع الجوامع الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق وعلى آله وصحبه وسلم.
* أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية