جمعتنى مكالمة هاتفية مع أحد كبار المخرجين المصريين قبل حوالى ست سنوات، لا أنساها حتى اليوم. كنا نتفق على إجراء مقابلة حوارية تُنشر فى كتاب عن الفن والسينما والكتابة الإبداعية يحمل اسم «أول الحكاية» قمت بإعداده مع صديقى العزيز والموهوب محمد غالب، وخرج إلى النور.
قلت للمخرج الكبير حينئذٍ: نريد أن نتحدث معك عن مشوارك وتجربتك ورسالتك الفنية التى تؤمن بها و... لكنى لم أكمل!
إذ قاطعنى فور سماعه كلمة «رسالتك الفنية».
قال لى: لحظة واحدة، لا يوجد شىء فى الفن اسمه: «رسالة».
قلت: أعرف أن الفن عملية إبداعية حرة، ولكن الرسالة حاضرة دائماً، حتى لو كان العمل الفنى عملاً كوميدياً يهدف للإضحاك والتسلية بالدرجة الأولى.
قال: لا أحب جدل الصحفيين.. ولكن أكمل، يسعدنى أن أستمع لك إلى النهاية.
قلت: أعمالك التى كتبتها وأخرجتها يمكننى أن أقرأ منها مجموعة من الرسائل وصلت لى كمشاهد، حتى لو كانت الرسالة غير مباشرة، وهذا أفضل للحفاظ على جماليات الفن، ولكنها موجودة!
سألنى: انتهيت؟
قلت: نعم.
قال: مرة أخرى، لا يوجد شىء فى الفن اسمه «رسالة»، على الأقل بالنسبة لى. أنا لا أؤمن ولا أحمل أى رسالة فنية.
تبادلنا التحية والسلام، ثم انتهت المكالمة.
أحب هذا المخرج الكبير وأحب أعماله، لكنى أختلف مع رأيه. الفن -بشتى أنواعه من الأدب إلى الموسيقى ومن التمثيل إلى الرسم والنحت وغير ذلك من الفنون- أداة لتنمية الإنسان وبناء المجتمعات ورفع درجات الذوق والوعى والإدراك. هذا أمر ثابت تاريخياً بالنظر إلى تاريخ نشأة وتطور الفنون، بل إن المسارح الجماهيرية الأولى فى قرون قديمة مضت نشأت بالأساس بهدف نقل رسائل مباشرة إلى الجمهور تنضوى على إخبار بمعلومة أو بمعرفة، ثم تطورت المسارح، وتطورت الرسائل، وتنوعت الأهداف لتشمل التسلية والترفيه والإثارة.
إذن، الرسالة موجودة من الأصل، والتطوير والتنويع وإطلاق الخيال لا يعنى أبداً إلغاءها!
ويجب ألا يُفهم من التأكيد على أهمية الرسالة الفنية الردة إلى الأزمنة الأولى، أو المطالبة بأن يتحول العمل الفنى إلى حصة مدرسية أو خطبة أو موعظة. الحصص فى المدارس، والخطب والمواعظ فى المساجد والكنائس. بل ما يجب أن يُفهم هو أن العمل الفنى، ومع كل إحكام الأدوات الفنية ومواكبة عملية التحديث المستمرة، يجب أبداً ألا يخلو من رسالة تصل إلى المتلقى.. إلى قلبه، إلى عقله، تمس شيئاً فيه، تدفعه للضحك أو البكاء أو التفكير أو تغيير نمط ما فى حياته. هذا هو الفن، ومن دون رسالة مؤثرة يفقد معناه ويفقد جدواه. المهم أن تكون هناك رسالة ذات معنى، حتى لو اقتصر تأثير هذه الرسالة على إفراز هرمون الإندورفين المسئول عن الضحك أو هرمون السيروتونين المسئول عن السعادة.
يقول الفيلسوف الألمانى فريدريش شيلر، وهو أديب وشاعر مسرحى قبل أن يكون فيلسوفاً من فلاسفة القرن الثامن عشر، فى رسالته التى حملت عنوان «تربية الإنسان الجمالية» إن «الفن عامل تحرر إنسانى شامل يهذّب الأخلاق ويرتقى بالإنسانية إلى مراتب السمو والكمال».
كيف يمكن للفن أن يفعل ذلك بدون رسالة؟!
كيف يمكنه أن يسمو ويهذب بدون رسالة؟!
كيف يمكنه أن يخلق العواطف ويوقد المشاعر بدون رسالة؟! أعود مرة أخرى لسؤالى الأول: هل الفن رسالة.. أم ترفيه.. أم كلاهما؟
وإجابتى أن الفن هو الأداتان معاً.. أداة تحمل رسالة، وأداة تحمل ترفيهاً. ومهارة الفنان هى قدرته على الجمع بين الأداتين، فلا يفقد الجدوى، ولا يفقد الجاذبية. فرسالة بلا ترفيه نصف فن، وترفيه بلا رسالة نصف فن.. أما الرسالة والترفيه معاً فهما الفن الشامل. والعديد من الأعمال الدرامية فى موسم رمضان الحالى استطاعت أن تقدم هذه الوجبة، فى مقدمتها مسلسل «الحشاشين» بكل ما فيه من جاذبية على مستوى الإبداع الفنى والصورة والديكور والحركة والموسيقى والأداء التمثيلى لأبطاله، وبكل ما فيه أيضاً من رسائل ومعان تدعو للبحث والتفكر والتأمل وإعادة بناء التصورات وربط ما هو حاضر بما هو تاريخى يتصل به.
ومَن يتأمل إنتاج شركة «المتحدة»، فسيعرف أن وجبة «الحشاشين» ليست محض مصادفة.. لكنها انعكاس لموقف فنى وانحياز مجتمعى فى الأساس يؤمن بمفهوم الفن الشامل الذى ينضوى على رسالة لا ينقصها ترفيه، وترفيه لا يخلو من رسالة!