قبل 12 عاماً من الآن كان من الطبيعى أن نستهجن أفكاراً وجملاً تتردد أمامنا عن «مخطط الشرق الأوسط الجديد» أو «مخطط الفوضى» أو «تجنيد عملاء لتنفيذ مخططات خارجية» أو اتهام حتى شخصيات بارزة بـ«التواصل سراً مع سفارات حكومات أجنبية لتنفيذ أجندة محددة داخل مصر لا هدف لها سوى تركيعها أو هدم مؤسساتها تحت ادعاء البناء الجديد للديمقراطية أو حلم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»!.. كنا نسخر من ترديد هذه المصطلحات والجمل بعد أن زرعت النخبة وقتها داخلنا شفرة جديدة للتعامل مع الواقع مفخخة بمصطلحات من عينة: «دولجى» لكل شخص يحاول الدفاع عن مؤسسات الدولة، أو «عبيد البيادة» لكل شخص يحاول أن يدافع عن قواته المسلحة، أو «أمنجى» لكل باحث يكتب عن خطر تمدد التيارات الدينية داخل المجتمع المصرى.. ومرت السنوات بعد 2011 سريعة ومصحوبة بحرب إعلامية شرسة تحاول النيل من عزيمة الشعب المصرى ورئيسه والنخبة التى وقفت إلى جوار الدولة لتجاوز سنوات الغليان والنار وبناء الدولة من جديد.. كل إنجاز كان يصحبه حملة ممنهجة للتقليل منه وإحباط الناس.. كل شخص يدافع عن الدولة يستباح عِرضه على منصات التواصل الاجتماعى.. لدرجة جعلت الكثيرين يفضلون الصمت حتى لا يعرّضوا أنفسهم لسيل من السباب والتجريح والخوض فى الأعراض، وهو ما أعتبره شخصياً كحالة الجندى الذى ألقى سلاحه وفرّ من ساحة المعركة!
12 عاماً مرت ولا أعرف كيف مرت بهذه السرعة على بلد بحجم مصر؛ تكاتف عليها الجميع لتركيعها وتفكيكها وتقسيمها كغنيمة حرب.. لولا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ وضعوا أرواحهم على أكفّهم فى سبيل هدف واحد فقط؛ هو عودة الدولة المصرية أقوى مما كانت عليه قبل 2011.
ويبقى هذا العام 2024 هو العام الكاشف لكل ما سبقه من سنوات.. ليفسر ويحلل لنا كل الأحداث التى مرت علينا خلال السنوات الماضية، والتى كان البعض لا يريد أن يقتنع بأنها جميعها تهدف لشىء واحد فقط؛ هو تركيع وتفكيك الدولة المصرية، وإبعادها تماماً عن دورها الإقليمى الذى ظلت تمارسه لعقود طويلة كقوة إقليمية لا يستهان بها فى الشرق الأوسط.
بالتأكيد جميعنا يرى أن العالم بعد السابع من أكتوبر 2023 بخلاف العالم ما بعد هذا التاريخ.. وتأكد الجميع أن ما صنعته مصر على مدار السنوات العشر الماضية يؤكد على شىء واحد؛ هو عمق الرؤية والتحليل وقراءة المشهد المستقبلى للمنطقة بأكملها.. والعمل على عودة مصر كقوة إقليمية وطرف رئيسى فى الوصول لأى حلول تتعلق بقضايا تخص المنطقة.. فكيف كانت مصر ستعود مرة أخرى إن لم تكن تمتلك جيشاً قادراً على الردع وصد أى محاولات للمساس بالأمن القومى المصرى.. كم مرة سمعت جملة «مش الناس أوْلى من شراء الأسلحة وتطوير الجيش».. «ما هى حاجتنا لغواصات بحرية وحاملة طائرات وطائرات حديثة»؟.. لا تخجل من نفسك وتذكّر كم مرة تورطت وصدّقت هذه الجمل التى حاولت إثارة الشعب على الدولة المصرية! هل اقتنعت الآن أن تسليح جيش وطنك وتطويره أفضل قرار اتخذته القيادة السياسية بعد أن أصبحت جميع حدودنا (شرقاً وغرباً وجنوباً) مشتعلة؟! كيف كانت دولة الاحتلال ستعانى لتنفيذ مخططاتها بالتهجير القسرى لشعب غزة إلى أرض سيناء؛ نتيجة أنها تعلم أن الدولة المصرية قادرة وجاهزة وقوية.. كيف كانت لغة خطاب القيادة السياسية المصرية ستكون أقوى وهى تدافع عن حق فلسطين فى حل الدولتين وإدانة المجازر اليومية فى حق الشعب الفلسطينى.. كيف كانت مصر ستقود المفاوضات ويعلم العالم كله أن مفتاح حل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع لن يحدث إلا بوجود مصر، وأن هذا الحل يبدأ من عاصمتها القاهرة.. وبنفس المنطق كيف كنا سنروى القصة الحقيقية ونكشف كذب وخداع ومجازر الجانب الإسرائيلى للعالم لو لم تكن مصر تمتلك آلة إعلامية قوية قادرة على تفكيك الأكاذيب الصهيونية وإرسال صوت الشعب الفلسطينى للعالم؟.
أتذكر جيداً وأنا أكتب هذه السطور كيف غيّرت «القاهرة الإخبارية» نظرة العالم لما يحدث داخل قطاع غزة، وكيف أبدلت الصورة؛ من «اتهام الفلسطينيين بالإرهاب والتعاطف مع الشعب الإسرائيلى»، لنصل إلى هذا اليوم الذى تعترف فيه 5 دول أوروبية بدولة فلسطين «إسبانيا، أيرلندا، سلوفينيا، النرويج، مالطا».. كيف كانت الشعوب الأوروبية ستعرف الوجه القبيح لحكوماتهم لتشتعل مظاهرات الطلاب للدفاع عن حق الشعب الفلسطينى فى الحياة، وكيف كانت المحكمة الجنائية الدولية ستدين مجازر الجيش الإسرائيلى داخل قطاع غزة وتصدر أمر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت.. كل هذا تحقق بقوة الآلة الإعلامية المصرية وما صنعته على مدار الشهور السبعة الماضية.. لنعيش سنوات جديدة تكون مصر فيها «الفاعل» والمؤثر، بعد سنوات كثيرة من التراجع والاستسلام كدولة «مفعول بها».
كيف كنا سنواجه التضليل والأكاذيب التى روّجتها شبكة CNN بشأن مصر فى محاولة لإيقاف دورها المحورى الذى تحاصر به دولة الاحتلال لتضيّق الحصار عليها وتجبرها على قبول الهدنة والعودة لغرفة المفاوضات مرة أخرى؛ أملاً فى الوصول لإقرار حل الدولتين الذى عاد مرة أخرى للظهور بعد سنوات من فقدان الأمل فى الوصول لأى حل عادل للقضية الفلسطينية.. هذا الحل لم يعُد للظهور مرة أخرى إلا بعد عودة مصر للقيام بدورها الإقليمى.. فعلى مدار 12 عاماً اختفى مصطلح «حل الدولتين» وصعد مكانه مصطلح «الصراع العربى الإسرائيلى» رغم أنه لا يوجد صراع، وإنما هناك دولة محتلة تغتصب حق شعب آخر فى الحياة.
أى ادعاء بأن مصر أفشلت اتفاق الرهائن والهدنة الأخير بين إسرائيل وحماس يفتقر لأى منطق، فى ضوء أن مصر على مدى شهور كانت تضغط لمنع إسرائيل من اجتياح مدينة رفح، وحين شعرت أن إسرائيل عازمة على هذه الخطوة تحركت مع مختلف الأطراف وقدمت مقترحاً جديداً للهدنة؛ فى مسعى منها لوقف التصعيد الإٍسرائيلى المتوقع، وفى ظل مواقف صعبة ومتشددة من الجانبين (إسرائيل وحماس) تسببت فى عدم إنجاح هذه الجولة من المفاوضات.
وللحديث بقية.. إن شاء الله.