جئن صبايا يافعات والغربة أحنت ظهورهن.. مُسنّات من أرض الجنوب: أهى وِحدة واتكتبت علينا
مسنتان غابت عنهما العيلة وحرمتا حتى من السؤال
جئن من الجنوب صبايا فى عمر الزهور، يتمتعن بقدر كبير من الشباب والجمال، الذى زين حياتهن لفترة طويلة، لكنه انطفأ رويداً رويداً، حلت محله التجاعيد، وأصبحت الوحدة خير ونيس لهن بعد أن انفرط عقد الأسرة، وتزوج الأبناء وغاب الأهل ورحل الشريك، واتسعت المسافات وردمت قنوات التواصل، فمنهن من تلازم فراشها دون حركة تنتظر من يحنو عليها بوجبة تسد جوعها، وأخريات يفضلن الجلوس بين المارة على حافة حجراتهن يتحدثن مع الجيران لكسر العزلة.
«مين بيسأل عليكى؟».. «ربنا»، إجابة لا تفارق فم سيدة حسين، صاحبة الـ65 عاماً، التى تعيش بمفردها فى غرفة ضيقة فى إحدى حوارى منطقة إمبابة، بعد أن تزوج ولدها الوحيد «رجب»، ورحل زوجها قبل 8 سنوات وأصبحت ترافق الجدران التى تحمل صور الغائبين: «كنت باجيب شوية درة أو حلويات أبيعهم قدام البيت، بس القبض بتاعى وقف فبطلت غصب عنى».
جاءت من أسيوط غريبة لا تعرف أحداً فى عاصمة الزحام سوى أسرة زوجها، عاشت بينهم ولم تشعر بالغربة إلا بعد رحيل زوجها: «كان مونسنى وبيتحدت معاى دلوقتى بقيت لوحدى زهقانة ومخنوقة»، انقطع معاشها قبل 3 شهور فجأة: «كل ما أروح يقولوا لى لسه ماجاش».
«سيدة»: ماحدش بيسأل عليا وجيرانى أقرب لى من ابنى.. «آمنة»: العيال قلوبهم بقت قاسية.. و«عزة» تزحف لتتوضأ وتطهو طعامها على شعلة: «بعد ما شقيت وجوّزتهم.. سابونى»
تحكى أنه لا أحد يطيق الجلوس معها، كل زائر يأتى يسلم من على الباب ويرحل سريعاً: «حتى ابنى بييجى يبص عليا من بعيد ويمشى لا بيدينى فلوس ولا بيقعد معايا».. تشتاق للونيس الذى يرافقها فى سنواتها الأخيرة بعد أن تدهورت الصحة: «ماليش قرايب.. كلهم ماتوا فى الصعيد»، تستعين بالجيران للذهاب إلى الطبيب: «هما أقرب لى من ابنى».
حياة شبيهة تعيشها آمنة حسن، 90 عاماً، جاءت من أسيوط، بعد أن طلبها ابن عمها للزواج بعد زيجته الأولى التى لم يرزقه الله خلالها بأطفال: «جابنى بعد ما فاتنى قطر الجواز وخلفت له واد وبت»، كانت تعمل فى «الغيط» تزرع وتسقى البهائم، تشتاق ليوم مثل هذا تستيقظ فيه باكراً وتنزل مع والدتها تمارس عملها المفضل: «الغربة كاويانا وبعدتنا عن الحبايب».
توفى كل أفراد أسرتها ولم تعد ترغب فى العودة، تجلس أمام الغرفة التى تسكن بها، تتحدث إلى نفسها الغريبة، تتطلع على حالها وتبكى وحيدة عليلة لا تقدر على الحركة، تعيش على طعام الشارع: «باعمل كوباية شاى وباكل بسكوتة.. ماقدرش أطبخ».
تزوجت ابنتها وأنجبت 4 أطفال، وكذلك ولدها لكنه لم يرزق بالأطفال منذ زواجه: «كنت قاعدة فى العشش اللى هدتها الحكومة ودلوقتى قاعدة فى مدخل عمارة»، تدفع إيجاراً 85 جنيهاً لم تستطع دفعه منذ 5 سنوات: «كنت بابيع حرنكش وقصب قدام المدخل بس العيال بتضايقنى»، تفزع من طرق الأطفال عليها باب غرفتها ليلاً، تجلس تبكى لقلة حيلتها وعدم وجود من يدافع عنها: «ولادى بيجولى كل فترة، لما بيكبروا قلبهم بيقسى»، تقطع الكحة حديثها ثم تستأنف شكواها من قسوة الزمن: «جبت 4 أزايز دوا كحة ماعملوش حاجة ولولا الناس بتساعدنى كنت مت».
أما عزة محمد، 70 عاماً، تعيش وحيدة فى عشة داخل مبانى إمبابة القديمة، ملازمة فراشها طوال اليوم، تساقطت أسنانها كلها، لا تستطيع الذهاب لدورة المياه إلا زحفاً لتتوضأ للصلاة وتطهو طعامها على شعلتها الصغيرة: «عشت شقيانة باشيل مونة ولما كبرت اتكتبت عليا الوحدة».
أنجبت «عزة» 6 أبناء، تزوجوا جميعاً عدا سيد الذى سجن فى قضية مخدرات، تنتظر خروجه منذ 6 سنوات ليؤنسها: «باعدّ الأيام والليالى، وخلاص هانت، هيجيلى بعد 5 شهور».. على هذا الأمل تعيش السيدة الصعيدية، بعد أن خلا البيت عليها، وتوفى زوجها منذ سنوات طويلة، تتذكر تفاصيل حياتها بصعوبة شديدة بسبب ضعف ذاكرتها، تتحدث تارة عن عملها مع «صنايعية» البناء فى المحاجر، وتارة أخرى عن بيع الفاكهة، وطباخة فى البيوت لتربية أبنائها بعد وفاة أبيهم: «بعد ما شقيت وجوّزتهم.. سابونى».
تشتكى ضعف بصرها ومن عصب عينيها، إضافة إلى فقدانها الحركة: «بقالى 20 سنة لوحدى».. تتسطح على الأرض وتفرش ملابس على الأرض لعدم وجود سرير أو دولاب: «راضية بقليلى وعايشة على أمل أشوف ابنى المحبوس».
تبيع «عزة» الطُرح والملابس القديمة التى تأتى لها من أهل الخير حتى تشغل وقتها، تتحدث إلى جيرانها الذين يأتون للاطمئنان عليها، وتبلغهم بأن عندها «هدوم» مستعملة: «بابيع الحتة بـ5 جنيه عشان أصرف وأعيش».