قريباً من منتصف عام ٢٠١٥، خرج أحد معارفى من السجن، بعد أن قضى فيه ٧ سنوات فى قضايا «إيصالات أمانة»، تعرضت خلالها أسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة لأبشع صنوف العذاب، ولأننى كنت أحد الذين تدخلوا لإجراء مصالحة بينه وبين بعض دائنيه، خرج بموجبها من السجن، فقد جاء لزيارتى بعد خروجه، وأثناء الحديث معه فوجئت به وقد تحول إلى خبير بأدق خبايا السجون وأحوال المساجين ونوعياتهم.. وذات يوم طلبنى ليطلعنى على مأساة رهيبة تحدث يومياً فى كل محافظات مصر، هى مأساة «الغارمين والغارمات»، التى كنت آنذاك أتصور أننى أعرف الكثير عنها، وإذا بى بعد أن استمعت إليه أمام لعبة إجرامية تسببت فى تدمير ملايين الأسر دون رحمة.
وعلى الرغم من أن جمعيات خيرية ومنظمات مدنية قانونية، اهتمت منذ أكثر من ١٥ عاماً باستعمال ظاهرة توريط ملايين المواطنين فى قضايا خيانة أمانة إيصالات، فقد ظلت أهم جوانب الظاهرة غامضة، ولم نتمكن حتى الآن من الوصول إلى المنبع الذى أنتج كل هذه المآسى، وما زال هناك من يستثمر أمواله «القليلة» فى هذا «المشروع الإجرامى»، مستنداً إلى قوانين بالية، ومعتمداً للأسف الشديد على صنف من المحامين تخصص فى هذا النوع من الاستثمار الأسود، دون أدنى اعتبار للعذابات الرهيبة التى يتسبب فيها، وللخراب الذى دمر استقرار مئات الآلاف من الأسر.
ومؤخراً أثار الرئيس عبدالفتاح السيسى قضية الغارمين والغارمات، خلال كلمته فى الاحتفال الأخير بيوم المرأة وتكريم الأمهات المثاليات، والمؤكد أن الرئيس -بحكم موقعه- قد اطلع على كثرة أعداد المسجونين من الرجال والنساء فى قضايا إيصالات أمانة، اتضح أن جانباً كبيراً منها نتج عن المغالاة فى تجهيز العرائس، حتى إن الرئيس أبدى اندهاشه من لجوء البعض إلى تجهيز ابنته «بغسالتين و١٠ بطاطين»، والحقيقة التى يعرفها كل من له صلة بالريف المصرى أن المغالاة والتباهى فى تجهيز العرائس تجاوزت الأرقام التى ذكرها الرئيس، حتى إن أفقر المواطنين فى الريف لم يعد باستطاعتهم الاقتصاد فى تجهيز بناتهم والاكتفاء بالضرورات الأساسية فقط، وهم يلجأون إلى الاستدانة وإلى الشراء بموجب إيصالات أمانة، خوفاً من معايرة العروس بفقر أهلها، وفى معظم الحالات يتعثّر هؤلاء فى دفع الأقساط، ويقضون سنوات طويلة من أعمارهم فى السجون، أو يعيشون هاربين من مطاردة شرطة تنفيذ الأحكام لهم حتى يسقط الحكم بالتقادم.. وفى الحالين تتحول الحياة إلى جحيم لا يُطاق، ويحل الخراب بالأسرة، ويدفع الأولاد ثمناً باهظاً فى غياب الأبوين ويتعرّضون لمصائر شديدة الخطورة.
كل هذا يحدث بسبب عوار رهيب وحيلة إجرامية لم ينتبه إليها أحد بما فيه الكفاية حتى الآن، فاللعبة بأكملها يحكمها تدليس شديد البساطة، ولكنه رغم بساطته ظل فى مأمن تام عن الكشف والملاحقة والعقاب.. وتحول القائمون به إلى أثرياء كبار هم الذين دخلوا هذه التجارة البشعة برؤوس أموال شديدة التواضع.. أحدهم -مثلاً- عاد من السعودية عام ٢٠٠٠ وليس معه غير ١٥٠ ألف جنيه، وآنذاك كان دائم البحث عن استثمار آمن لهذا المبلغ، حتى اهتدى إلى محامٍ لقنه أصول لعبة شراء أجهزة منزلية ومفارش وبطاطين وعباءات لزوم تجهيز العرائس، وبيعها بأضعاف سعرها مقابل إيصالات أمانة، ولكن بشرط أخذ توقيع الضحايا على توكيل لمحام يمثلهم أمام النيابة والقضاء فى حالة التعثر أو التخلف عن سداد الأقساط.
وهنا مكمن اللعبة الإجرامية، فهؤلاء المواطنون قبل التوقيع على إيصالات الأمانة، قاموا بالتوقيع على توكيلات لمحامين يعملون مع التاجر ويشاركونه بنسبة فى أرباح هذه التجارة البشعة، ولأن فوائد الديون تصل إلى أكثر من ١٠٠٪، فغالباً سيتوقف المدينون عن السداد بعد عدة شهور، ليجد كل منهم نفسه مطلوباً من النيابة فى جنحة خيانة إيصال أمانة، ثم تأخذ القضية مجراها الطبيعى وتمر بكل درجات التقاضى فى حضور محامى المتهم، وهو ليس محاميه فى الحقيقة، ولكنه يعمل سراً مع التاجر مقابل نسبة، وفجأة يصدر الحكم النهائى البات واجب النفاذ بالحبس الذى يتراوح بين شهر وثلاث سنوات حسب المبلغ الذى تم تبديده، وغالباً ما يتم إثبات مبالغ ضخمة فى إيصالات الأمانة المتعدّدة، حتى يأتى الحكم بأقصى عقوبة!
والمثير فى أمر هذه التجارة أن القائمين عليها -ومعهم عصابة من بعض المحامين وأمناء الشرطة- يحرصون دائماً على أخذ عدة إيصالات أمانة على المدين الواحد.. وهناك مئات الآلاف من الحالات -رجال ونساء- وقعوا ٤ إيصالات أمانة مقابل دين لا يزيد على ٢٠٠٠ جنيه، وعادة ما يتم إثبات مبالغ تتراوح بين ٥٠ و٢٠٠ ألف جنيه فى كل إيصال.. وحتى فى حالة مسارعة مدين لسداد الأقساط المتأخرة فإنه يظل معلقاً من رقبته حتى يدفع أضعاف المبلغ الذى استدانه أو اشترى به سلعاً، ولا توجد قوة على ظهر الأرض -سواء كانت عرفية أو رسمية- تستطيع أن تقنع تاجراً من هؤلاء بعتق أب أو أم من المطاردة القانونية والتنازل أو التصالح فى القضايا، بعد أن دفع أضعاف دينه.. لأن هذا التاجر يتحجج دائماً بأنه دفع الكثير من الأموال للمحامين الذين يعاونونه فى هذا التدليس، ولأمناء الشرطة الذين يجتهدون فى مطاردة المدينين، حتى يعرفوا أن الأمر شديد الخطورة، وأنهم لن يفلتوا أبداً من تنفيذ العقوبة.
إن خدعة المحامى الذى يتظاهر أمام المحكمة -بموجب توكيل إذعان- بأنه يترافع أو يمثل «المدين»، هى البعد الغائب فى هذه «الورشة العملاقة لصناعة الخراب الأسرى»، وفى تفشى نوع من التجارة لا يراكم أدنى فائدة لهذا البلد، ففى الوقت الذى يتحول فيه شخص من تاجر بدأ مشروعه بـ١٥٠ ألف جنيه قبل عشرين عاماً فقط، إلى مستثمر كبير يملك عشرات سيارات النقل وعشرات المعدات الثقيلة، ومئات الملايين فى حساباته، أصبح لدينا عشرات الآلاف من الأسر المدمرة، والآلاف من المسجونين -رجالاً ونساء- بسبب دين تافه، وقد رأينا وسمعنا عن حالات كثيرة قضى أصحابها سنوات طويلة فى السجن لمجرد أنهم اشتروا بضاعة بـ٥٠٠ جنيه فقط، ومع الوقت وجدوا أنفسهم مطالبين بدفع عشرات أضعاف هذا المبلغ التافه.. وعندما عجزوا عن السداد تم القبض عليهم وإيداعهم السجون.
والجديد فى هذه الظاهرة أنها لا تقتصر فقط على ضحايا تجهيز بناتهم للزواج، ولكنها امتدت إلى تسليف أسر مبالغ بسيطة لإجراء جراحة، أو لتجهيز أوراق وحجز تذكرة سفر شاب إلى دولة خليجية، للبحث هناك عن عمل لا يتوفر غالباً، وهناك من اشتروا «تكاتك» بأربعة أضعاف سعرها العادل للعمل عليها، ولأنه لا يوجد -حتى الآن- قانون واضح فى مصر لعمل هذه المركبات، فإن أصحابها يعيشون دائماً تحت رحمة المطاردة ودفع غرامات باهظة للإفراج عن مركباتهم من المرور وشرطة المرافق وأقسام الشرطة فى كل المحافظات.. وغالباً يتعثر هؤلاء فى سداد الأقساط، ليجد كل منهم نفسه مطارداً هو وزوجته، أو والدته، فى قضايا خيانة أمانة إيصالات، حصل عليها «قرصان» تتعامل معه القوانين والمحاكم والنيابات باعتباره «مجنياً عليه»، وهو فى الحقيقة يرتكب جريمة منظمة، ويسهم فى تدمير آلاف الأسر دون رحمة، ويراكم فى حساباته أموالاً طائلة دون مجهود يُذكر، كلما امتلأت عنابر السجون بضحاياه.