سكان «شارع الصدام».. أسبوع فى الجحيم
يجلس محملقا فى الفراغ، ينفث دخانا يصنع موجات تافهة تجرى نحو منتصف الشارع، ثم تموت عند «الجدار الخرسانى» المشيد أمام المبنى الأنيق الذى يضم بين جنباته رجالاً خرجت الثورة لتقويم سلوكهم، ولكن شيئاً لم يُحقق، وكأن ثورة لم تَقم، وكأن نظاماً لم يسقط.
هنا على يساره، كان الجنود مثقلين بالأسلحة يحاولون الذود عن عرينهم أملاً فى حماية «هيبة الداخلية» من التحطم مرة أخرى على صخور الثورة، وهنا على يمينه، قبض الثوار على حلمهم باستكمال التغيير الذى انطلق منذ شهور فى بقعة ليست بعيدة عن مكانهم الحالى، مواجهين الرصاص بالحجارة، والغاز بالدعوات، والمطاطى بآمال الحرية وتقرير المصير.
ولكنى لست مؤيداً لهذا أو ذاك، فلماذا حُرق مستقبلى وصار «أكل عيشى» حطاماً تبعثره الأقدار وتعصف به رياح الغضب، بعد أن التهمت النيران ومن بعدها المجرمون مجهود سنوات دأبت خلالها على العمل لضمان مستوى أفضل لأبنائى؟ ولكن ما جدوى ذلك بعد أن قذف أحدهم القنابل بالخطأ لتستقر داخل «المحل» قبل أن تشتبك مع ما بداخله وتصير نيراناً تمحو كل ما يعترضها؟
لم يكن «عم رفعت» مجرد أحد سكان شارع محمد محمود الذى كان مسرحاً لأكثر المشاهد الدموية قسوة فى فترة ما بعد الثورة، هو أيضاًً صاحب أحد المحال التجارية لبيع قطع غيار السيارات والذى دك الحريق حصونه خلال الاشتباكات التى نشبت بين وزارة الداخلية وشباب الثورة قبل عام من الآن.[Image_2]
رفعت الذى كان مؤيداً للثورة فى أيامها الأولى وحتى وقوع الحادث لم يفقد إيمانه بأفكار ومعتقدات «التحرير» وعلى رأسها العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولكنه يلوم على الدولة سوء صنيعها، وإهمال شعبها، وكيف لا وقد رفض ضباط الداخلية بعد أن استنجد بهم تأدية واجبهم بالتوجه لمكان الحدث وإثبات الواقعة لعمل محضر بالحادث؟
يقول رفعت واصفاً المشهد: «لم أتوجه لفتح محلى فى هذا اليوم المشئوم تجنباً لويلات الاشتباكات، ولكن يبدو أنها أبت أن تظفر بغيرى، فقررت إحدى قنابل الغاز المسيل للدموع اختراق لافتة المحل العلوية والاستقرار فى الداخل لينشب بعد دقائق حريق هائل استمر لأربع ساعات وحتى شروق الشمس، دون أن يتوقف أحدهم لمساعدتنا أو يسعفنا أصحاب الضمائر».
لم تكتفِ وزارة الداخلية بحرق ملاذ الرجل الوحيد للهروب من شبح الفقر والدخول فى زمرة المتسولين، بل قام أحدهم بإطلاق الرصاص عليه وإصابته فى ذراعه أثناء تفقده للخسائر بعد أن رفض الاستسلام لنصائح الأطباء بالمستشفى الميدانى بكنيسة قصر الدوبارة وهب مسرعاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه متجاوزاً شارع الموت ليرى «يوم القيامة»، على حد تعبيره، بالرغم من التحذيرات بوجود بوادر «ذبحة صدرية» ناتجة عن «صدمة الحريق».
يقول رفعت فى أسى: «لم أكن أتوقع يوماً أن تكافئنى مصر بعد أن بذلت الغالى والرخيص لرفعتها ووضعها على المسار الصحيح بحرق مستقبلى، فبالرغم من أنى صابرت واجتهدت واستعدت عملى مرة أخرى، فإن مرارة فى الحلق لا تزال آثارها قائمة».
كم هو مثير للضحك والغثيان أن يقبع أناس بلغوا من العمر أرذله محاصرين داخل منازلهم! فلا طعام يمكن التزود به، ولا سبيل للخروج من الباب الصغير للمسكن، وكأنهم فى بلاد غريبة عن بلادهم تحت وطأة استعمار كدر صفو حياتهم، متأثرين بغاز لم يُشهد استخدامه ضد المدنيين من قبل فى شتى دول العالم.
عبدالفتاح أحمد حسن، رجل شديد السمار يكسو وجهه تجاعيد تحمل ذكريات عمر طويل عاشها حارساً لأحد العقارات بشارع محمد محمود، وجد نفسه فجأة محاصراً داخل حجرته الصغيرة وليس فى اليد حيلة سوى إغلاق «باب العمارة» فى محاولة للهرب من تأثير الغازات، وهو الأمر الذى لم يحدث أبداً طوال سبعة أيام هى عمر الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن المركزى.
«تنفسنا الغاز بدلاً من الهواء فى تلك الآونة، وخلف آثاره مياها بيضاء على عينى اليمنى، فضلاً عن بعض مشاكل التنفس التى أعانى منها على فترات، بالرغم من اتباعى التعليمات آنذاك واستخدامى للعقار الذى أوصانى الدكتور باللجوء إليه للحد من تأثير الغاز»، هكذا حدثنا الحاج عبدالفتاح متذكراً أياماً وصفها بالأصعب فى حياته.
«نعم شارك فى إشعال فتيل الأزمة أناس «مأجورون» لأهداف لا يعلمها إلا الله»، هكذا يقول عم سمير، صاحب ورشة لتصليح السيارات بمدخل الشارع من ناحية ميدان التحرير.
سمير الذى وصف فترة الاشتباكات بـ«الأيام السودة»، عانى كغيره من «وقف الحال» حتى بعد أن انتهت الأحداث، حيث ظلت الجدران الأسمنتية التى شُيدت آنذاك لتحمى وزارة الداخلية تمثل عازلاً بين أهل الشارع وباقى المحروسة، لتترك خلفها شارعاً بلا حياة، خاوياً من المارة والشرطة والسيارات وحتى الأطفال، الأمر الذى دفع بالعديد من السكان إلى هجر مساكنهم والبحث عن حياة جديدة فى مكان أكثر أمناً.
يروى سمير معالجته للموقف خلال تلك الأيام العصيبة التى أصابت زوجته بحساسية على الصدر جراء استنشاق الغاز المسيل للدموع قائلاً: «قررنا حذر دخول غرفتين كاملتين داخل المنزل حيث كانتا تطلان على شارع محمد محمود مباشرة، وتأثرنا كثيراً بوفاة بعض الجيران من كبار السن جراء الاستنشاق الدائم والمستمر للغازات المسيلة للدموع على مدار أسبوع كامل».
لا يأمل أهل الشارع بعد عام من الصراع مع العزلة تارة والاشتباكات التى بدت أشبه بالحروب تارة أخرى سوى فى حياة كريمة، تؤمن فيها أرزاقهم، ويطمئنون خلالها على أولادهم، ليبنى الجميع وطناً قائماً على «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية».
أخبار متعلقة:
محمد محمود عام على «دماء الحرية»
أبطال الموقعة يسترجعون تفاصيل «السبت الدامى»: الدماء لا تزال فى رقابنا
«حيطان محمد محمود».. طريق الشهداء للوصول إلى وزارة الداخلية وسط «بركة الدم»
بروفايل: صفوت حجازى.. شيخ «العسكرى»
بروفايل: أحمد حرارة.. عيون الثورة
«الوطن» تشارك أهالى الشهداء ذكرى «الوجع الكبير»
«مشرحة زينهم».. شاهد على «الدم والرصاص»
«الحائط العازل».. أوقف نزيف الدم.. وجندى: «نقلناه من بنى يوسف للتحرير فى ساعة واحدة»
بروفايل: منصور العيسوى.. وزير بلا سلطة
بروفايل: حازم أبوإسماعيل.. الشيخ الثائر
أطباء التحرير.. جندى الثورة المجهول فى معارك الحرية
رجال الإسعاف الشعبى.. موتوسيكلات فى خدمة الثوار
حكايات «عيون» أضاءت «شارع الحرية»