مصر غير قابلة للاختطاف.. ومع ذلك ما زال البعض يظن أنه يستطيع أن يخطفها.. وهؤلاء لا يتعلمون من التاريخ.. لا ينظرون لمحاولات كثيرة جرت لخطفها وفشلت.. فى كل مرة لم يكن الخاطف يرى أنه يسطو عليها، وإنما يعتقد أنه يجتهد من أجلها.. وفى كل مرة حاول فيها الخطف لقى مقاومة. كل خاطف تصور أنه أحق بمصر.. وأن مشروعه مشروع لمصر كلها.. هكذا تصرف عبدالناصر.. وهكذا فعل السادات.. وهكذا توهم مبارك. الإخوان المسلمون رأوا أن عبدالناصر اختطف مصر، وأن ثورة 1952 كانت فى الأصل ثورتهم.. ولأنه من وجهة نظرهم خاطف فقد قاوموه ليثبتوا أن مصر غير قابلة للاختطاف.. وجاء من بعده السادات.. فرأى الناصريون والإسلاميون أنه اختطف مصر ليهديها إلى الولايات المتحدة ولمجموعة من القطط المصرية السمان.. وكان أن شط فريق من الإسلاميين فقاوموه إلى أن قتلوه.. ودراما قتله كانت مريعة ذكّرت من جديد بأن مصر غير قابلة للاختطاف.. لكن مبارك لم يستوعب الدرس.. حاول بدوره أن يختطفها بل ويورثها فى بيته ويوزع خيراتها بين بطانته.. وفاق ما اختطفه فى ثلاثين عاماً كل ما اختطفه من سبقه فى ثلاثمائة عام.. لكن مصر عادت فأثبتت فى 25 يناير أنها غير قابلة للاختطاف.
وبعد عامين من الثورة عاد الكلام عن الاختطاف مرة أخرى إلى الواجهة، وبالتحديد عن الإخوان المسلمين.. ولم يكن كلاماً مرسلاً يساق على عواهنه بلا دليل.. أكثر من يقوله يسوق شواهد تدعمه.. كما ينزل فى مليونيات تندد بأخونة الدولة وتذكّر بأن مصر غير قابلة للاختطاف.. والإخوان يقفون أمام ابتلاء لم يواجهوه عبر تاريخهم الطويل.. فقد دانت لهم السلطة.. وللسلطة زهوة.. وللسلطة أيضاً شهوة.. السلطة بطابعها تدفع من يمسك بها إلى طلب المزيد من امتيازاتها.. ومن لا يعرف حدودها أو لا يجد من يقول له «لا» فقد يختطفها دون أن يشعر.. فنحن جميعاً بشر.. يستوى فى الضعف أمام إغراء السلطة الاشتراكى والليبرالى والإسلامى. متى ما دانت لأحد فقد يدفعه إغراؤها إلى الاعتقاد فى أحقيته بما ليس له فيه حق.. وهذا هو الاختطاف بعينه.. فالخاطف كما سبق القول لا يرى أنه سطا وإنما يظن أنه اجتهد فحصد ما يستحقه.
أما الناس فترى بعين أخرى.. تفرق بين من يسطو ومن يستحق.. وأكثر من ينتقد الإخوان يرى أنهم يستحقون.. لكنه يرفض أن يتركهم يسطون.. لا يعترض منصف على حقهم فى الوصول للسلطة كجماعة وطنية تعتبر قياساً بالآخرين أكثر تنظيماً وأعلى قدرةً على الدعاية والحشد.. لكن المنصف لا بد أن يرفض ترك من يستحق يشتهى فيظن أن بإمكانه أن يسطو.. والإخوان ربما لقلة الخبرة أو للاندفاع الزائد أعطوا وما زالوا يعطون عن أنفسهم هذا الانطباع.. أعرف أن فيهم رجالاً لا تغريهم زهوة السلطة ولا تحرفهم شهوة القوة.. لكنى أرى مثل غيرى شواهد تدل على أن بينهم من هم عكس ذلك.. من تلك الشواهد إخوان سابقون خرجوا عن الجماعة رافضين اندفاعها إلى الانفراد خائفين من ميلها إلى الاستئثار.. رجال خشوا على مصر من أن يكرر الإخوان معها نفس الخطأ الذى وقع فيه آخرون قبلهم: أن يظنوا أنها قابلة للاختطاف.
وأحسب أن الاستقطاب الحادث حالياً ليس فقط بين كتلة إسلامية وأخرى مدنية.. وإنما هناك استقطاب آخر وأهم يدور بين مصريين يصرون على أن بلدهم غير قابل للاختطاف من تيار، وآخرين يظنون أن الانتصار التاريخى دنا لتيارهم وأن ما هم بصدده ليس مشروعاً للاختطاف وإنما رسالة لهداية الوطن. وهذا النوع من الاستقطاب سيعيش حتى بعد أن ينتهى الاستقطاب المدنى- الدينى، فالغالبية الكاسحة من المصريين مدنيون ومتدينون فى آن، والتفرقة بينهم على هذا النحو مؤقتة صنعتها ظروف التحول السياسى المضطربة.. خلاف المصريين المتكرر ليس فقط حول الدين والسياسة، وإنما بين من يرى مصر جائزة كبرى تغرى على الاختطاف ومن يراها جائزة كبرى يجب أن يتشارك فيها الجميع.. وبشواهد التاريخ أثبتت مصر أكثر من مرة أنها جائزة كبرى لكنها بقيت دائماً عصية على الاختطاف.. ولعل من يستعصى عليه رؤية مصر العصية على الاختطاف أن يراجع حساباته.