السؤال أعلاه يطرحه زملاء إعلاميون كثيرون، ليس ليحصلوا على إجابة، ولكن، للأسف، لكى يسوّغوا لأنفسهم ارتكاب الانحيازات والأخطاء المهنية، كما تطرحه قطاعات من الجمهور المصرى، ليس لتعرف أسماء وسائل إعلام تقدم أداءً رشيداً، ولكن لتعزز مواقفها إزاء الإعلام المحلى، وتبث المزيد من الشكوى من أدائه المتراجع والمتدنى.
لقد بات جمهورنا المنشغل بمتابعة التطورات السياسية فى مصر والمنطقة العربية منهكاً ومرتاباً، فى ظل هذا التضارب والتدافع الإعلامى غير المسبوق، والذى بسببه تخفق القطاعات الغالبة من هذا الجمهور فى معرفة الحقائق، وتحليلها، وتكوين الرأى، واتخاذ القرار.
كما أصبح قطاع واسع من زملائنا الصحفيين والإعلاميين مقتنعاً بأن إخفاق عدد كبير من وسائل الإعلام العالمية المرموقة فى الوفاء باعتبارات الموضوعية أحياناً، سبب كافٍ وعذر وجيه للتخلى عن أى قيمة أو معيار خلال ممارسة عملهم.
والواقع أنه من الصعب جداً إنكار أن كثيراً من وسائل الإعلام الدولية المرموقة فقدت قدرتها على الإلهام فيما يتعلق بتقديم أداء إعلامى موضوعى، وأن هذا الأمر عمّق ميل إعلامنا إلى الانحياز، ومع ذلك فإن هذا الانحراف المهنى الواضح يظل غير مقبول، ويظل مطلوباً منا جميعاً مقاومته.
ثمة أسباب عديدة تضافرت لتخلق هذا الوضع؛ بعضها يتعلق بملكية وسائل الإعلام، التى بات معظمها فى أيدى الحكومة أو رجال الأعمال المؤيدين لها، وبعضها الآخر يتعلق بتراجع الالتزام المهنى، وغياب الموضوعية فى تناول القضايا والموضوعات ذات الاهتمام.
هل كانت وسائل الإعلام المصرية موضوعية فى طريقة تغطيتها للأحداث المثيرة التى شهدتها مصر منذ اندلعت الانتفاضة فى العام 2011، أم أنها لعبت أدواراً سياسية وتثويرية وتحريفية غير مهنية، وضللت الجمهور؟
يفترض السائل عادة أن الموضوعية هى إحدى آليات صناعة الإعلام التى يمكن ضمان وجودها فى أى ماكينة إعلامية أو الاستغناء عنها برمتها، أو هدف محدد واضح يمكن إدراكه بالكامل أو التخلى عنه تماماً، أو سمة من سمات العمل الإعلامى التى تتحلى بها وسائل إعلام معينة، وتفتقدها تماماً وسائل إعلام أخرى.
يمتلك الكثير من المثقفين والمتابعين رؤية مغلقة لا تقبل الجدل؛ مفادها أنه «لا توجد أى وسيلة إعلام موضوعية أو محايدة على الإطلاق؛ إذ تعمل كل وسيلة على تحقيق أهداف مالكها، وحتى تلك الوسائل الغربية التى تتسيد المشهد الإعلامى العالمى، فليست إلا أدوات سياسية فى أيدى مالكيها، لا تحقق الموضوعية ولا ترجوها أصلاً». لا يجب أن يطرح سؤال الموضوعية على هذا النحو، بل يجب أن يطرح بطريقة أخرى؛ مفادها: إلى أى مدى اقتربت تلك الوسيلة من الموضوعية أو ابتعدت عنها فى تغطيتها لحدث ما؟
فثمة اتجاهان إزاء الموضوعية فى العمل الإعلامى، أولهما يرى أن «الموضوعية خرافة، وأنه قد آن الأوان لأن يصبح القائلون بالموضوعية أكثر واقعية، وأن يعترفوا بأنها شىء لا وجود له، إلّا فى أذهانهم فقط. فإذا كانت الموضوعية تتطلب أن تكون المواد الإعلامية أمينة؛ ونزيهة؛ وناطقة بالحق، فأين هى هذه التقارير؟ فلا يوجد مراسل صحفى يعرف الحقيقة كل الحقيقة. ومن ثم فليس بمقدوره أن يكتب تقريراً يضاهى الواقع بكل أبعاده».
أما الاتجاه الثانى إزاء الموضوعية، فيرى أصحابه أنها «هدف يمكن تحقيقه، ويمكن للإعلامى أن يكون موضوعياً إذا أراد، وسعى من أجل ذلك. وهو وإن لم يصل إلى الشكل الدقيق للموضوعية، الذى يتحدث عنه أصحاب الاتجاه الأول، فإنه يستطيع الوصول إلى درجة من الموضوعية، تثبت أن الموضوعية مفهوم ذو معنى، وليست خرافة على الإطلاق».
والسؤال الأساسى، الذى يطرحه أصحاب هذا الاتجاه المؤيد لإمكانية العمل من أجل تحقيق الموضوعية هو: ما موقف المراسل، تجاه تقريره الإخبارى، وتجاه جمهوره؟ هل يريد أن يكون محايداً؟ هل يسعى إلى تفادى الانحيازات والتزام التوازن والإنصاف؟ فالموضوعية، يمكن أن تكون مفهوماً واقعياً، فى وسائل الإعلام، على الرغم من كل العقبات التى تعترضها.
تبقى الموضوعية هدفاً صعب التحقيق فى العمل الإعلامى، لأنها تستلزم توافر عدد من الآليات؛ مثل: الإحاطة الكافية واللازمة بالموضوع، ومراعاة الدقة إلى أقصى درجة ممكنة، وتحقيق الإنصاف والحياد والتوازن.
وتستلزم الموضوعية كذلك وضوح الرسالة، حتى فى أوقات الخطر، وشمولية المعالجة، وعدم إهمال السياق، وإسناد الآراء والمعلومات لمصدر موثوق، وواضح، وذى صلة، والعمل لصالح الحقيقة، وليس لأى جهة أو اعتبار آخر.
وتقبل الموضوعية عدم القدرة على إقصاء الأيديولوجيا فى بعض الأحيان، لكنها تلزم بضرورة الإحاطة برأى الطرف الآخر على الدوام، وتنادى بعدم الاقتصار على نقل آراء الأطراف المنخرطة فى القصة، ولكن كذلك آراء هؤلاء الذين يملكون رأياً فيما يحدث.
من أفضل تعريفات الموضوعية فى العمل الإعلامى أنها «نوع من المعالجة المهنية والثقافية والأخلاقية للمادة الإعلامية، بحيث تتوافر فيها أبعاد الموضوع كلها، والاتجاهات المطروحة حياله، بطريقة متوازنة، تستند إلى حجج منطقية، وتتميز بالدقة، والإنصاف فى العرض. وتفصل الآراء عن العناصر الخبرية، وتنسبها بوضوح وصراحة إلى أصحابها، وتتجرد من الأهواء والمصالح الخاصة، وذلك فى إطار من التعمق والشمولية، يراعى السياق، وعلاقة الخاص بالعام، وربط الجزء بالكل، شرط أن تعكس المادة الإعلامية أولويات الاهتمام عند الجمهور».
يضع التعريف السابق معظم وسائل الإعلام المحلية التى انخرطت فى تغطية التطورات السياسية التى وقعت فى السنوات الثمانى الأخيرة فى موقف صعب للغاية، خصوصاً أنها تحولت فى معظمها إلى وسائل تتبنى التعتيم والإنكار، أو التهوين والتقليل، أو الكذب والتضليل، أو المبالغة والتثوير والتأجيج، كما بات أغلبها جزءاً من مواقف الأطراف ومن أدوات الدعاية بل وصنع السياسة.
لا يبدو أن ثمة الكثير من وسائل الإعلام التى استطاعت أن تتصدى لتغطية التطورات السياسية التى جرت فى السنوات الثمانى الفائتة على نحو جيد فيما يتعلق باستيفاء متطلبات الموضوعية وآلياتها، لكن هناك بعض وسائل الإعلام التى استطاعت أن تقترب بتغطيتها من هذا المفهوم، وأن تستوفى بعض تلك الآليات.
تظل المنافسة بين وسائل الإعلام ذات التركيز التحريرى السياسى متعلقة باتساع التغطية وتواترها وعمقها من جهة، وبدقتها وحيادها وموضوعيتها من جهة أخرى؛ لذلك فإن الجمهور الذكى لم يكن ليقبل بتسليم نفسه لوسيلة واحدة من الوسائل مهما امتلكت من المهارة والقدرة ليتزود من خلالها بالأخبار والتحليلات عن التطورات الحادة التى تزلزل الواقع، بل عمل على «موازنة» انحيازات بعض الوسائل عبر متابعة انحيازات وسائل أخرى.
وإلى أن نمتلك وسيلة إعلام قادرة على استيفاء القدر الأكبر من آليات الموضوعية، سنبقى مضطرين للتنقل بين عدد من الانحيازات الإعلامية للوصول إلى تقييم أكثر موضوعية لما يحدث حولنا، أو اللجوء لبديل أجنبى ناطق بالعربية، ولا يزال أكثر قدرة من وسائلنا على الاقتراب من مفهومى الموضوعية والحياد.
الموضوعية ليست خرافة، لكنها هدف يستحق أن نسعى من أجل تحقيقه، ولا يعنى إخفاقنا فى ذلك أن نغرق فى الانحيازات.