طبيب شاب أرسل لى على موقع التواصل الاجتماعى الأزرق الشهير منذ عدة أيام يشكو من أنه متهم «بالقتل الخطأ» أمام القضاء!!.. للوهلة الأولى سيتبادر إلى الذهن أنه قد صدم أحداً بسيارته أو ما شابه.. إلا أنك تكتشف بعد بضعة سطور أن المجنى عليه هنا هو مريضة حضرت إلى «المستشفى الحكومى» الذى يعمل به وهى فى حالة صدمة نزفية نتيجة لانفجار فى الرحم، وأنه قد حاول إنقاذها فى غرفة العمليات لعدة ساعات.. إلا أن القدر قد قال كلمته وسبقه الموت إلى رأس المريضة كما تقول الأساطير..!
يقول الطبيب الشاب: أهل المريضة لم يقتنعوا أنه قضاء الله، وقدموا شكوى للنيابة العامة التى قامت باستدعائى للاستدلال أولاً.. ثم توجيه الاتهام بعد نقاش مع وكيل النيابة الذى لم يقتنع بأننى بذلت كل ما أملك من جهد لإنقاذ الحالة.. وانتهى التحقيق بكفالة مالية، وأصبحت مضطراً للتصالح مع أهل المريضة بتعويض مالى لا أملكه من الأساس!!
الأمر ليس جديداً.. فكل من يمارس المهنة فى مصر يعرف أنه معرّض لهذا الموقف كل لحظة دون ذنب اقترفه.. أذكر صديقاً قد تعرّض لاستدعاء من النيابة العامة للتحقيق فى حالة تلوث لجرح عملية استئصال للزائدة الدودية، علماً بأن المريض قد خرج من المستشفى منذ أيام.. مع تعليمات صارمة بالحضور فى أيام محددة للغيار على الجرح.. ولكن المريض قد اختفى تماماً ليظهر أمام النيابة بجرح ملوث، ويمثل الجرّاح باتهام قاسٍ بالإهمال الطبى!!
الطريف أن الأطباء فى كل الشكاوى التى تقدم ضدهم يتم التحقيق معهم حسب القانون الجنائى الذى يحاسب القتلة والمجرمين.. دون أدنى اعتبار لظروف عملهم الخاصة.. ولا لظروف الحالات التى يباشرونها التى تكون أقرب للموت من الحياة فى كثير من الأحيان.
إن الضرر الطبى قد ينتج من إهمال الطبيب. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.. ولكنه قد ينتج أيضاً من مضاعفات واردة الحدوث ومنصوص عليها فى المراجع العلمية، أو من إهمال المريض نفسه فى عدم اتباع النصح الطبى اللازم لحالته!
فى كل دول العالم لا تتم محاسبة الطبيب «مهنياً» إلا بقانون خاص.. وبعد تقرير من لجنة فنية متخصصة تقر أنه مذنب بشكل ما، فضلاً على أن التعويض المادى يتم دفعه من شركات التأمين التى يتم التعاقد معها من المستشفيات لحماية الأطباء وحفظ حقوق المرضى.. فلماذا لا يتم ذلك فى مصر؟
هناك أكثر من مشروع لقوانين تخص المسئولية الطبية حبيسة أدراج البرلمان منذ عدة دورات لم يناقشها أحد حتى الآن لسبب لا يعرفه أحد.
هل فكر أحد فى نفسية ذلك الطبيب الذى تعرّض لإهانة توجيه الاتهام أو لخطر الحبس حتى وإن ثبتت براءته بعد ذلك؟؟
هل تخيل أحد حالته حين يعود مرة أخرى لممارسة عمله؟.. هل سيحاول الطبيب الذى تعرّض لتلك التجربة إنقاذ حياة مريض مرة أخرى فى الطوارئ؟.. أم سيفكر فى تأمين موقفه أولاً على حساب حياة المرضى!!
الإجابة نجدها بوضوح فى عزوف الأطباء عن البقاء فى الوطن.. ونجدها فى محاولتهم المستمرة للعمل بالخارج.. فبالإضافة لتحسين دخلهم.. فهم مؤمّنون من خطر «العقاب» على محاولتهم إنقاذ مريض على حافة الموت..!
لقد ختم الطبيب الشاب رسالته لى بأنه يراقب ما يحدث من نقاش بشأن تحسين دخل الأطباء للحفاظ عليهم داخل الوطن.. لكنه يرى أنهم يحتاجون للحماية فى المقام الأول.. قبل أن نبحث لهم عن الدخل العادل..!
أعتقد أن مشروعاً للتأمين على الأطباء من أخطار المهنة، كما هو متبع فى العالم كله، والتوجيه بالإسراع فى مناقشة وإقرار قانون المسئولية الطبية فى البرلمان قد بات ضرورياً.. إن كنا نريد الحفاظ عليهم!!