تعليقاً على الجزء الثانى من هذه السلسلة من المقالات تحت عنوان «القانون برىء»، وردت لى رسالة عبر الواتس آب، من المستشار أحمد الدهشان، رئيس محكمة الاستئناف، يقول فيها: «فى عام 1990م، كنت قاضياً بمحكمة الهرم، وعرضت علىّ قضية بيوع حجمها بارتفاع المكتب وورق من كل العقود وشكلها مخيف، فكان كل قاض تعرض عليه يهابها ويلتمس التأجيل لأى سبب، ولكنى تجرأت وفتحتها، فإذا هى قضية مطالبة بمبلغ 50 جنيهاً مرفوعة من الحكومة سنة 1955، وبالمناسبة دى السنة التى اتولدت فيها، أى عمر القضية 35 سنة صرفت عليها الحكومة مئات الجنيهات، والمدين الأصلى توفى من زمن طويل، فما كان منى إلا أن دفعت من جيبى الخمسين جنيهاً وشطبت الدعوى وانتهت للأبد، وعندما علم ورثة المدين بذلك حضروا إلى المحكمة وسددوا لى الخمسين جنيهاً. ففعلاً ياما فى أروقة المحاكم والنيابات العديد من هذه التفاهات».
ولعل هذا الموقف الإنسانى من المستشار أحمد الدهشان يذكرنا بموقف إنسانى آخر، انتشر مؤخراً على شبكات التواصل الاجتماعى وفى وسائل الإعلام، ويتعلق بواقعة حدثت فى محكمة جنوب القاهرة، حيث كان رئيس الجلسة هو القاضى هشام الشريف، وكانت إحدى المتهمات تحاكم بجريمة تبديد لمبلغ بسيط فى إيصال أمانة، وعندما نادى الحاجب على المتهمة، دخلت على المنصة، وكانت فى أواخر الأربعينات من عمرها، وكانت محبوسة ولم يفرج عنها، لعدم سداد الكفالة، ورغم أن المبلغ المدون بإيصال الأمانة هو سبعة آلاف جنيه، فقد تبين من خلال سؤال المتهمة وإقرار ابنة الشاكى أن المبلغ الحقيقى هو ألف جنيه، سددت المتهمة منه خمسمائة جنيه، وقام القاضى نفسه بسداد المبلغ المتبقى من ماله الخاص، عارضاً على محامية المجنى عليه أخذ المبلغ والتصالح مع المتهمة، وهو ما تحقق بالفعل وانتهت القضية عند هذا الحد.
وبمجرد أن تكتب على محرك البحث «جوجل» كلمة «القاضى»، سوف يظهر لك محرك البحث تلقائياً العبارات الأكثر بحثاً، ومنها عبارات «القاضى الإنسان» و«القاضى الرحيم» و«القاضى فرانك دى كابريو»، وإذا قمت بتصفح بعض الروابط على محرك البحث الأشهر فى العالم، سوف تجد موضوعاً بعنوان: «القاضى الرحيم».. حين تكون الإنسانية فوق القانون، وقد تقرأ بعض العبارات مثل: «إن القوانين عامة وضعت حتى تنظم حياتنا، وحتى تنصفنا من جور وظلم البعض، إلا أن هذه القوانين فى بعض الأحيان تكون صارمة بشكل لا إنسانى أو أن العاملين فيها يضعون القانون فوق المصلحة الإنسانية، ما قد يقتل روح هذه القوانين ويحولها فى بعض القضايا إلى أحكام ظالمة، لم تحقق الأهداف الحقيقية لها».
والواقع أن القانون نفسه عمل إنسانى، ينبغى أن يتشرب بروح الإنسانية، ولذلك، أجد غضاضة فى قراءة بعض العبارات، مثل «الإنسانية فوق القانون»، فالإنسانية فى رأيى هى جزء من القانون، والدافع إلى إصداره، والموجه الأساسى له، ومن ثم، لا يمكن الفصل بين الإنسانية والقانون، بل هما صنوان لا يفترقان، ولا ينبغى أن ننسى أن العقوبة فى النظام الجنائى الحديث لم تعد أداة للانتقام من الجانى، كما كان الوضع فى النظم البدائية، وإنما غدت وسيلة للتهذيب والتأهيل والإصلاح، وينبغى بالتالى استخدام العقوبة بالقدر الضرورى لتحقيق الأهداف التربوية لقانون العقوبات، فالهدف من وراء العقاب ليس تحقيق الانتقام، ولا تكفير المذنب عن ذنبه، وإنما يتمثل فى الحيلولة دون وقوع جرائم جديدة فى المستقبل، وقيل فى هذا الشأن إن كل عمل من أعمال السلطة يمارسه إنسان ضد آخر، يعد نوعاً من أنواع التحكم، إذا لم يكن ضرورياً على وجه الإطلاق، وذهب الفقيه الإيطالى «سيزارى بيكاريا» (Cesare Beccaria) إلى أن العقوبات يجب أن تكون نافعة، وهى لا تكون كذلك إلا إذا كانت متناسبة مع مبلغ الضرر الذى أصاب المجتمع من جراء الجريمة، وانطلاقاً مما سبق، يجيز القانون للنيابة العامة حفظ التحقيق أو الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الأهمية، كذلك، تخول التشريعات الجنائية الحديثة للقاضى الحق فى استعمال الرأفة، إذا رأى من أحوال الجريمة ما يقتضى الرأفة بالمتهم، ويقرر المشرع للقاضى سلطة تقديرية كبيرة فى تحديد العقوبة، بما يتناسب مع أحوال المتهم وظروف الجريمة، ويمنح القانون أيضاً للقاضى سلطة وقف تنفيذ عقوبة الحبس متى توافرت شروط معينة. وهكذا، يمكن الحديث عن «إنسانية القانون»، ولا يجوز القول بأن «الإنسانية فوق القانون».. والله من وراء القصد.