مقامات السادات الوفائية: أفضل الأقطاب.. طريق تغطي جنباته القمامة والحجارة
مقامات السادات الوفائية
باب صغير أخضر اللون، فى الجهة الخلفية لخلوة السيدة نفيسة، ويحيط بالمقام من الخارج عدد من صنابير المياه المثلجة التى وضعها أصحابها بجانبه وكتب عليها صدقة جارية، وفى الداخل مجموعة كبيرة من المصاحف التى يتركها بعض الزوار، وبمجرد الدخول تشم رائحة أعواد البخور التى تظل مشتعلة أغلب اليوم.
خلف المقام غرفة صغيرة يغطيها السجاد الأحمر المتعارف عليه فى أغلب المساجد المصرية، بها ضريح سيدى محمد، المغطى مقامه بقماش أسود اللون، مدون عليه عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وتعلوه المصاحف المفتوحة التى تركها الزائرون لغيرهم الراغبين فى قراءة القرآن فى الضريح، وخلفه زاوية لتحديد اتجاه القبلة، وبها لوحات مدون عليها أسماء الله الحسنى.
فتـح الدين محمد بن محمـد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس، هو الفقيه الشافعى، أندلسى الأصل من إشبيلية وولد فى مصر سنة 671 هـ وكان حافظاً بارعاً وأديباً بليغاً حسن المحاورة، أخذ علم الحديث عن والده وابن دقيق العيد ولازمه سنوات كثيرة وتخرج على يده وقرأ عليه أصول الفقه، وله مدائح حسان فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إماماً فى الحديث، وفقاً لكتاب مرشد الزوار إلى قبور الأبرار.
يعلوها بيتين شعر ولافته باسم صاحبها.. مقامات السادات والوفائية
بمجرد الخروج من مقام سيدى عبدالله والسير فى الطريق الذى تغطى جنباته القمامة والحجارة وبقايا فروع الأشجار، نصل إلى مبنى يبدو عليه أنه تاريخى، فحوائطه عتيقة، كتبت عليها كلمات ورسمت بها نقوش محاها الزمن بمرور سنواته الطويلة، ولم يبق منه إلا علامات لا تدل على جملة واضحة، تقف أمامه سيدة وجهها يبدو عليه الشحوب، ظهرها محنى وكأن كثرة الهموم هى السبب فى ميله، اسمها بهيجة إمام، وبمجرد سؤالها عن المقام أشارت إليه وقالت: «روح ادعى أنا لسه خارجة من هناك، نادى على العامل وراضيه هيفتحلك»، فسكنها فى منطقة السيدة عائشة ساعدها فى الالتزام بالزيارة فى موعدها المحدد كل يوم سبت».
20 جنيهاً لزوجة العامل كانت كفيلة بفتح أبواب المقام المغلق بسبب تداعيات فيروس كورونا، الباب الخشبى للمقام مصنوع من خشب الجوز، ومصفح بصفائح من النحاس الأصفر بكل منها حلقة من النحاس، ويعلو الباب بيتان من الشعر منقوشان على الإطار الجبسى، نصهما: «باب شريف قد رقى ببنى الوفا بالحق فيه أفضل الأقطاب»، والثانى: «قالت لنا أنوار سر جنابه … لا شك هذا أكمل الأبواب».
فى الداخل ساحة فسيحة بها عدد من أولياء الله الصالحين من السادات الوفائية، كل مقام محاط بسياج خشبى به فتحات للنظر إلى الوالى الصالح، وعلى كل منها لافتة تحمل اسم صاحبها وجزءاً من سيرته وحياته لتعريف الزوار به، تروى زوجة العامل أنها تعيش هنا معه منذ سنوات، ويحرص الناس على زيارة المقام وقراءة الفاتحة، رغم غلق المقام بسبب كورونا، فإن الزوار ما زالوا حريصين على الزيارة، وقالت زوجة العامل: «فيه ناس زيارة الأولياء جزء من حياتهم، بييجوا هنا كل أسبوع لقراءة الفاتحة وتوزيع الصدقات على المحتاجين».
تحكى زوجة العامل التى رفضت ذكر اسمها خلال زيارة المقام، أن إجراءات الغلق رغم تداعيات فيروس كورونا لم تمنع الزيارات للمقام، خاصة بين سكان المنطقة والمناطق المجاورة، وتابعت «حب آل البيت يتولد فى القلب، واللى اتعود على زيارتهم ما بيقدرش يبعد كتير وبيفضل مشتاق لهم».
سيدى محمد وفا، هو القطب الكبير ابن محمد الأوسط بن محمد النجم رضى الله عنهم، ولد فى مدينة الإسكندرية سنة 702 هجرية، ونشأ منذ نعومة أظافره ورعاً تقياً، محباً للعلم، وسلك طريق الشيخ أبى حسن الشاذلى، له العديد من الكرامات منها ومن أبرزها وفاء النيل وزيادته بسبب دعائه لله، والتى كانت سبباً فى تلقيبه بـ«وفا»، أما عن سبب تسمية أولاده وأحفاده بالسادات فهو لما لهم من عز قديم فقد ينتمى نسبهم إلى الإمام حسن بن على كرم الله وجهه من زوجه البتول الزهراء بنت سيدنا محمد «صلى الله عليه وسلم»، حسب كتاب مرشد الزوار إلى قبور الأبرار.
مقابر السادة الدومية الخلوتية.. أشخاص اختلوا بأنفسهم وانقطعوا الله بالعبادة
طريق ضيق، أرضه ترابية غير مستوية، تحيط به من الجانبين مقابر فى حالة متدهورة، تجعله أشبه بمضمار سباق سيارات، نادراً ما تطأه قدم غريبة عن سكان المكان، وبعد خطوات قليلة من الدخول إليه تظهر عدة مبان، وبالنظر إلى اليمين يتجلى مسجد «السادة الدومية الخلوتية»، ببابه الخشبى القديم المغلق دائماً، وواجهته الرخامية التى تميل للون الأبيض، وبالالتفات إلى اليسار يظهر سور أحمر يعلوه شريط طويل من الصاج ذو لون أخضر، يخفى معالم المدافن الخاصة بـ«السادة الدومية الخلوتية»، وعلى بابه لافتة مكتوب عليها، «خاص بأبناء الطريقة فقط».
الطريقة الخلوتية هى إحدى الطرق الصوفية فى مصر، التى تعنى الانقطاع لله بالعبادة عن طريق الاختلاء بالنفس والعزلة والتفرغ للعبادة، ويتخذ عدد من أتباع الطريقة الخلوتية الصوفية هذا المسجد مزاراً لهم، ولفترة قريبة من الزمن كانوا يعتكفون به فى العشر الأواخر من شهر رمضان، وهنا يوجد الشيخ شاهين المحمدى، أحد أبرز شخصيات الخلوتية، حيث وُلد بمدينة تبريز بإيران فى القرن التاسع الهجرى، وأمضى فى فارس طفولته ومعظم شبابه ثم رحل إلى مصر فى عهد السلطان الأشرف قايتباى، واشتراه السلطان وأصبح من مماليكه وانتظم فى جنده، ولكن حياة المماليك والجندية لم توافق مزاج شاهين ولا طبيعته التى فُطر عليها.
طباع شاهين كانت تميل للانطواء، يحب العزلة ويطمئنُ إلى صحبة الفقهاء ورجال الدين، فحفظ القرآن والكثير من الأحاديث سواء فى بلاد فارس أو مصر، وطلب من السلطان قايتباى أن يسمح له بحياة التصوف والعزلة والعبادة فسمح له، حسب كتاب اللآلئ السنية فى أوراد الطريقة الدومية الخلوتية.
على بعد أمتار قليلة من المقام يجلس سيد على، 63 عاماً، يعيش فى إحدى المقابر، ويحكى أن المنطقة تتمتع بالكثير من الروحانيات، والزيارة لا تقتصر على سكان المنطقة أو البسطاء فقط، بل هناك الكثير من الزوار الذين يأتون من خارجها للزيارة، فهناك أشخاص يأتون بسيارات فارهة لتوزيع الصدقات والزيارة، ولكن أغربهم من وجهة نظره رجل سبعينى يأتى من محافظة الإسماعيلية، وعنه قال: «الراجل ده بييجى كل ليلة رأس سنة هجرية يوزع فطائر بيقول إن مراته وبنته بيعملوها وبييجى بدرى يوزع على أهل الله».
مياة مثلجة وحلوى وكتب دينية.. نفحات مسجد ومقام سيدي عمر بن الفارض
طريق طويل بين مقابر البُسطاء والأغنياء على حدٍ سواء، يميناً ويساراً، يقطعه المريد سيراً على الأقدام للوصول إلى مقابر «ابن الفارض»، ووسط ساحة كبيرة يظهر المسجد الذى يرجع تاريخه إلى القرن الثامن عشر بجانب مجرى سيل قديم، السكينة والهدوء يتصدران المشهد حول المقام ويغلفان المكان، وكأنه خلوة حقيقية لمن يُريد التقرب، حوائطه أثرية باللون الأبيض، وبابه خشبى بنى اللون مغلق من الداخل، تعلوه قبة صغيرة زخارفها ناتئة، شبابيكه طولانية وصغيرة، وبه لافتتان رخاميتان من اللون الأبيض تحملان اسم ومقام سيدى عمر بن الفارض.
فور طرق أبوابه يفتح المسئول عن المسجد ويسمح بالزيارة، فى الداخل، تمتد ساحته الرُخامية البيضاء أمام المقام، وتنقسم بوابته إلى قسمين؛ أحدهما مخصص للرجال، وآخر للنساء. فيما يقع الضريح بينهُما، وعقب دخول المسجد يرفض العامل أى حديث معه لكنه يسمح بالاختلاء مع المقام، ويقدم للزائر زجاجة مياه مثلجة وطبقاً من الحلوى وبعض الكتب والمجلات الدينية المعتمدة، ويتركه للمناجاة داخل المقام.
الضريح المدفون أسفله عُمر بن الفارض سنة 632 هجرياً، يقع فى مُنتصف المسجد، ويرجع تاريخه إلى عهد السلطان برقوق، فهو عُبارة عن غرفة مربعة الشكل، حوائطها حديدية حتى تسمح للزوار برؤية المقام، تنبعث منها روائح المسك، ومكونة من 4 عقود تقوم عليها قبة حجرية غير مرتفعة، وتمت زخرفة أركان العقود بمجموعة من المقرنصات، وعليها شريط من آيات الذكر الحكيم.
سيدى عمر بن الفارض دخل فى بدايته مدرسة، بديار مصر، فوجد شيخاً فقال له: «يا عمر. يفتح الله عليك»، فجاء إليه وجلس بين يديه، وقال يا سيدى: «فى أى مكان يفتح الله علىَّ؟ قال يفتح الله عليك بمكة»، فقال «وأين مكة يا سيدى؟» فدله وأشار عليه، فرحل إليها ومكث بها 15 سنة، ثم عاد إلى الجامع الأزهر وذاع صيته بين العلماء والحكام والأمراء، وبعد أن اشتغل بالفقه ورواية الحديث، حُبب إليه الخلاء وأحب الصوفية، زهد واستأذن والده فى السياحة، فساح فى الجبل الثانى فى المقطم وآوى إلى بعض أوديته ثم كان يعود ثانية، وفقاً لكتاب «كفاية المعتقد» لأبى محمد الجوينى.
على بعد أمتار قليلة من بوابة المسجد تجلس «فتحية»، وهى سيدة خمسينية أحد سكان المقابر المجاورة للمقام، وبمجرد سؤالها عن «ابن الفارض» تروى سيرة الرجُل الصالح، الذى جاءً من سوريا إلى مصر، وتحدثت عن كراماته العديدة التى يعرفها كافة سكان المنطقة، بنبرة لا تخلو من الحماس، وأضافت: «بتدخل تدعى ومشكلاتك تتحل، الراجل سيدنا عمر ده بركة فعندما أتعرض لضائقة مالية أدعو أمام مقامه حتى تنفرج»، كما أنها كانت شاهدة على محنة جارتها التى حُلت مشكلتها بعد ليلة من الدعاء أمام المقام.
وتتحدث «فتحية» عن المُحبين والمريدين الذين يأتون سعياً إلى مقام عمر بن الفارض من كل صوب، فرغم وقوعه فى منطقة بعيدة وتتطلب جهداً فى الوصول إليها، فإن زواره لا ينقطعون عنه أبداً رغم أزمة كورونا، ويأتون يرددون الدعوات أمام مقامه، ويتمسحون ببركاته ويضعون النذور فى صندوق خشبى قديم، أو تتكفل الورود والشموع بإنهاء مراسم الزيارة.