لا تحسد أحداً ممن بلغ قمة السلطة والمجد فكسرته قاتلة، ولذلك عبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن راحة السلطة ومتاعها فقال «نعمت المرضعة»، وعن قسوة نزعها فقال: «وبئست الفاطمة»، فالفطام منها أشق من فطام الطفل، وعبر القرآن عن الأمرين بقوله: «تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ»، فالثانية فيها قسوة النزع.
كان من أنبغ طلاب الدكتوراه فى أمريكا، وطنى من طراز فريد، سلاحه العلم والعمل، لا يعرف المحسوبية ولا الواسطة، نظيف اليد واللسان، كان يطلق عليه وزير الفقراء، نعاه الرئيس السيسى مادحاً وطنيته وبذله.
من أشهر رؤساء وزراء مصر، مكث فى منصبه 4 سنوات كلها بذل وعطاء وتطوير، غضب منه «مبارك» عدة مرات، وشى به رجال «مبارك» عدة مرات، صراحته وشفافيته ودقته أضاعته.
كان «الجنزورى» يتصرف بعفويته؛ فرفض اعتمادات لإصلاح بعض القصور الرئاسية، كما تحدث مع «نتنياهو» فى الطريق من المطار إلى القصر عن حقوق الشعب الفلسطينى، وأن مصر لن تطبّع اقتصادياً مع إسرائيل حتى تعيد حقوق الشعب الفلسطينى، فلما وصل إلى «مبارك» وحكى له ما دار بينهما قال له «مبارك»: وماذا تركت لى؟.
أشياء كثيرة أوغرت صدر «مبارك» من «الجنزورى» حتى كتب سمير رجب، وكان معروفاً بكبسولاته الموجهة عن «الجنزورى» بعنوان «المغرور»، بوحى من الرئاسة، لكن «الجنزورى» باهتمامه بالعمل فقط لم يعر الأمر اهتماماً ولم يدرك أنها بداية النهاية لمستقبله السياسى.
بعد عزل «الجنزورى» دعى لحضور الاحتفال بنصر أكتوبر فى الصالة المغطاة وتكرر ذلك فى عيد العمال 2002، فضجت القاعة بالتصفيق وهتاف: «الجنزورى رجل الفقراء» مرتين.
كانت هذه الدعوات بعد أن أنقذ «الجنزورى»، وهو على المعاش حياة «مبارك» بعد علمه من وزير لبنانى صديق بوجود محاولة لاغتيال «مبارك» فى لبنان، فصدرت الأوامر فوراً بعدم التصفيق إلا للرئيس وكأنه سيخصم من رصيده، لم تصرف له مكافأة فى نهاية خدمته سوى 14 ألف جنيه، فى حين بعض عمال شركات قطاع الأعمال كانت مكافأة نهاية خدمتهم 35 ألفاً. منع من الوجود فى أى نادٍ عام حتى ولو للقراءة والاطلاع، منع من رئاسة أى بنك مصرى أو أجنبى، مع أن معظم سابقيه تولوا رئاسة بنوك، منع من رئاسة المجالس المتخصصة، طلبته بعض الدول العربية ليعمل مستشاراً اقتصادياً لحكامها فاعتذر لأنه يعلم أن سيرفض طلبه.
بعض القادة العرب طلب تكريمه فحيل بينه وبين ذلك، عاش فى العزلة التامة، كما عبر هو فى كتابه الشهير «كمال الجنزورى، طريقى الحلم والصدام والعزلة»، فالحلم يعنى النجاحات الفريدة التى حققها، خاصة كوزير ورئيس وزراء، «والصدام» أى مع رجال «مبارك»، والعزلة هى بقية حياته منذ عزلته وحتى ثورة 25 يناير، حيث أعيد تعيينه رئيساً للوزراء لمدة عام.
وقد عبر فى كتابه عن فترة العزلة بقوله: «منحنى الله صبراً وسكينة لم أتوقعها»، وهذا يحدث لأمثاله من الفضلاء، إذ يحزنون لسقوطهم من علٍ وتنكر الناس لهم، ثم ما يلبث الفؤاد أن يسكن إلى الزهد فى الدنيا والسلطة ويلجأ إلى الله لتسكن جوارحه بالارتباط بالله والعودة إلى الجذور، فمن القرية بدأ «الجنزورى» ثم صعد سلم السلطة سريعاً بعلمه وجهده ومثابرته، ولكن السياسة لا تعرف للمجتهدين اجتهادهم وحين تطيح بهم لا ترحمهم ولا تشفق عليهم ولا تحسن إليهم بعد عزلهم.
رحم الله الجميع، فقد اجتهد كل منهم فى موقعه حسب ما آتاه الله من فهم وعلم ويصيره وسعة عقل وقلب، وكلهم عند الله العدل الحكيم الرحيم سبحانه.