أراها حرباً طويلة الأمد، فيها الكثير من الخسائر البشرية الفلسطينية، وقليل من الخسائر البشرية الإسرائيلية (بلغة الأعداد والأرقام)، ودك كامل لقطاع غزة من حيث البنى التحتية والفوقية، وهو دك صار معتاداً بين الحين والآخر.
صحيح أن هذه المرة الدك مريع، وكم الدمار والخراب مخيف، لكن سبق حدوثه وجرى إعادة البناء.أراها حرباً طويلة لا يدفع ثمنها سوى أبناء غزة فى الداخل، ومعهم دول الجوار بدرجات متفاوتة ومسئوليات متعددة.
طول الحرب -أى حرب- يعنى استنزاف القدرات والجهود والقدرة على الصبر والجلد على جانبى الصراع، وبالطبع، يتكبد الجانب الواقع عليه الظلم القدر الأوفر من هذا الاستنزاف.
قد يتمتع الجانب المظلوم بقدرة أكبر على الصبر والجلد والإيمان إلخ، لكنه بشر يجرى استنزافه!
وضمن آثار الحرب الطويلة فقدان العالم الاهتمام وشغف المتابعة ونعمة التفاعل. إنها أيضاً طبيعة بشرية. المجازر والفظائع تصيب الرأى العام العالمى بصدمة تجعله ملتصقاً بالشاشات التى تبث ما يجرى على مدار الدقيقة.
تمر أسابيع وأشهر، وتصبح المتابعة كل ساعة أو ساعتين، ثم كل يوم أو يومين، وهلم جرا إلى أن يتضاءل الاهتمام باستثناء أولئك المتمسكين بتلابيب المتابعة، وأصحاب الشأن والقريبين منهم، والمتأثرين مباشرة بما يجرى.
هل تعلم عزيزى القارئ أن حرباً ضروساً تجرى فى دارفور فى السودان العربى الشقيق منذ عقود؟! البداية تعود إلى عامى 1983 و1984، والصراع الذى تأجج على خلفية الجفاف والمجاعة. فقدت الآلاف من السكان العرب كل ما تملك.
حتى حلول السلام إبان الحرب الضروس بين شمال السودان وجنوبه على مدار سنوات تجاهلت دارفور.
وفى عام 2003 بدأ ما يعرف بالتمرد أو الصراع المسلح، حيث جماعات متمردة بدأت صراعاً مسلحاً ضد الحكومة السودانية، وطيلة الصراع ظل أهل دارفور من المدنيين من يدفع الثمن فى غفلة أو تغافل من العالم.
الأرقام ترجح نحو 300 ألف قتيل، ونحو مليون ونصف نازحين فى مخيمات.
وفى عام 2020، تم توقيع اتفاق «سلام»، لم يتم تنفيذ أى من بنوده.اختفت دارفور تماماً من الأخبار. يبزغ اسمها بين الحين والآخر لعرض تقرير أممى عن صحة النساء، أو مصير الشباب، أو وفيات الأطفال، كذلك الذى صدر قبل أيام مشيراً إلى أن الجوع يقتل طفلاً فى دارفور كل ساعتين.
ثم تعود الأمور إلى الهدوء.الهدوء النسبى الحالى فيما يتعلق بشغف العالم بأخبار الحرب فى أوكرانيا نموذج آخر. والنماذج لم ولن تنتهى، ولا توجد حرب أو صراع فى تاريخ البشرية ظل مهيمناً على اهتمام الرأى العام ومتابعته للأبد، مهما كانت حرباً ضروساً أو وضعاً مريعاً.
وضعية «الكماشة» التى تجد مصر نفسها فيها تحتاج تحركات وإجراءات وتعاملاً مدروساً ومحبوكاً.
فـ«الكماشة» تتزامن وضغوط اقتصادية غير مسبوقة وأوضاع عالمية وإقليمية ما أنزل الله بها من سلطان. والمواطن المصرى معروف بصبره وجلده وقدرته على التحمل والتعايش، شرط أن يلوح الأمل فى الأفق.
الأفق هذه المرة يحتاج قدراً أوفر من الواقعية. ففى الواقعية والصدق ما يضمن السلامة لنا جميعاً.جميع الإجراءات -أو فلنقل الجانب الأكبر- التى يوجه باتخاذها الرئيس السيسى تضع المواطن فى قلب الاعتبار.
مبادرات الحماية الاجتماعية والمادية كثيرة وكثيفة، بكثرة من يستحقونها وكثافة الأزمة.
لكن الأزمة الاقتصادية التى ضربت أنحاء عدة فى العالم لم تكتف بالتأثير سلباً على الفئات الأكثر احتياجاً، لكنها ضربت وتضرب بعنف «رمانة الميزان» و«ضمان الاستقرار» فى المجتمعات، ألا وهى الطبقات المتوسطة، ومصر ليست استثناء.قاطنو منتصف الهرم الاقتصادى والاجتماعى فى حالة حركة وليس حراكاً.
يحدث الحراك الاجتماعى حين تنتقل طبقة ما من مكانة اجتماعية واقتصادية وثقافية ومعيشية وسكنية ما، إما إلى أعلى أو إلى أسفل.
يستغرق الحراك عادة فترة زمنية طويلة نسبياً، باستثناء الصعود أو الهبوط المفاجئين فى أوقات الأزمات أو عدم الاستقرار.ما يحدث حالياً هو حركة صاخبة فى منتصف الهرم، حيث محاولات الإبقاء على البقاء فى هذه المساحة، مع بحث عن سبل مبتكرة وسريعة تضمن هذا البقاء.
وضمن متطلبات البقاء، وفيتامينات التشبث مكون الطمأنة التى تتحقق بالمعلومات والرؤى المستقبلية، وليس فقط إطعام الجائع وتسكين المتألم.
رأيى المتواضع أن هذه الطبقة فى حاجة إلى خطاب من نوع خاص. توليفة المعلومات مع الرؤى والتصورات المصحوبة بخطط زمنية ومصارحات آنية لها مفعول السحر بين قاطنى المنتصف.
هذا السحر لا يساعد فقط على الصبر والتحمل، ولكنه يصنع ظهيراً شعبياً متعلماً مثقفاً واعياً قادراً على وزن الأمور، وإعادة ترتيب الأولويات بحسب المتغيرات، مع قدر وفير من وضع «الصالح العام» نصب الأعين.غاية القول، اعط الطبقة المتوسطة معلومات ورؤية واضحة، تأخذ عينيها.