الصحافة الجيدة لا تشرح الماضى وتفسر الحاضر فقط، لكنها أيضاً قادرة على قراءة المستقبل، وأهم عنصر فى تلك القراءة يظهر فى اعتماد المعلومات الموثقة، ومسارات الاستدلال المبرهنة.
كان هذا ما تدافع فى ذهنى حين قرأت عن كتاب الصحفية الفرنسية آنا إيريلى «فى جلد جهادى.. صحفية صغيرة تدخل شبكة التجنيد فى (داعش)»، والصادر عن دار «نيويورك هاربر كولينز»، فى عام 2015.
وفى التعليقات والملخصات التى سعت لشرح ما ورد فى هذا الكتاب المهم، تقول «إيريلى» إنها انتحلت شخصية فتاة فرنسية صغيرة تسعى إلى الانضمام لـ«داعش»، وتواصلت إلكترونياً مع من وصفته بأنه «قيادى عسكرى مقرب من البغدادى».
تلخص الصحفية الفرنسية تجربتها بالقول إن القيادى «الداعشى» المفترض بدأ معها بإغراءات الانضمام إلى التنظيم، والعيش كـ «مسلمة حقة فى البلد المسلم الوحيد، عوضاً عن البقاء فى ديار الكفر»، قبل أن يعرض عليها الزواج، ويجذبها بالحديث عن «حياة مهمة، تتحقق من خلالها، فى أجواء من المغامرة».
ثم تحكى كيف أن هذا القيادى رسم لها مخططاً تستطيع من خلاله أن تصل إليه فى البلدة التى يقيم فيها داخل الأراضى السورية، كما أمدها بأرقام هواتف لأشخاص سيقومون بمساعدتها فى كل نقطة تصل إليها خلال رحلتها.
كان هذا يحدث، قبل نحو عقد من الزمان، فى الوقت الذى استطاع تنظيم «داعش» فيه بلوغ ذروة أمجاده، حين هيمن على مساحة من الأراضى تقارب مساحة المملكة المتحدة، فى كل من سوريا والعراق، وأعلن قيام دولته، وأكد أنها «باقية.. وتتمدد»، وراح يروع المنطقة والعالم بحالة توحش صارخة وصادمة.
والآن، يجب أن نتذكر هذا الكتاب، ومعه كل المآسى التى تسبب فيها وجود «داعش»، وخطته التى بدأت ناجحة ومزدهرة فى استقطاب اليافعين من الجنسين، اعتماداً على «الجاذبية» المفترضة فى حياة «لها معنى»، يمكن أن تستهوى بعض المراهقين المتعبين، والذين يعيشون أوضاعاً اجتماعية مضطربة ومفككة.
فقبل يومين، رفضت محكمة بريطانية طلب استئناف قدمته فتاة بريطانية تدعى شميمة بيجوم، للطعن على قرار سحب جنسيتها قبل تسعة أعوام، بعدما وُجدت فى معسكر اعتقال فى سوريا، وكان لقبها آنذاك «عروس (داعش)».
لقد دفعت «بيجوم» بأنها كانت مراهقة لم تتعد الخامسة عشرة من عمرها، حين استطاع شاب «داعشى» أن يستدرجها عبر وسائل «التواصل الاجتماعى»، فتركت منزلها ومدرستها وعائلتها فى لندن، وسافرت بصحبة زميلتى دراسة إلى إسطنبول، ومنها إلى داخل الأراضى السورية، حيث استقرت كأحد عناصر التنظيم، قبل أن تتزوج من هذا الشاب «الداعشى».
ويبدو أن محاميها رغب فى أن يقنع المحكمة بأنها كانت ضحية عملية «إتجار فى البشر»، معتمداً على حداثة سنها حين اتخذت قرارها بالسفر إلى «دولة الخلافة» المزعومة، لكن القاضية البريطانية سو كار لم تقتنع بذلك، فأصرت على رفض الطعن، معتبرة أن «القرار فى قضية السيدة «بيجوم» قد يكون قاسياً، لكن يمكن القول إنها كانت السبب فى سوء حظها».
ليست «بيجوم» سوى أنموذج يوضح القدرة التى تمتع بها تنظيم «داعش» ومكّنته من استقطاب مجندين وسكان لدولته المزعومة من مختلف أنحاء العالم عبر وسائل «التواصل الاجتماعى»، ولعل مأساتها الشخصية -بعد سحب جنسيتها وضياع مستقبلها- تكون مدخلاً لقراءة واعية للقابلية الكبيرة التى امتلكتها تلك الوسائط لخدمة خطط التجنيد الخاصة بالجماعات الإرهابية.
والواقع أن «داعش» امتلك استراتيجية إعلامية متكاملة، وتلك الاستراتيجية حولت القدرات الاتصالية التى يمتلكها التنظيم إلى «أداة قتال رئيسية»، ويمكن القول إن تلك الأداة بالذات كانت الأكثر فاعلية ونجاعة بين الوسائل المختلفة التى استخدمها.
فقد أوضحت دراسات عديدة أن «الإنترنت» كانت المرتكز الأساسى لاستراتيجية التنظيم الإعلامية، التى تنوعت وسائلها، ونجحت ببراعة فى إنجاز عمليات الاستقطاب، والتجنيد، والاتصال الميدانى، والتعبئة، والتدريب، وإصدار التكليفات، وصولاً إلى تنفيذ العمليات الإرهابية.
لا يمكن ضمان القضاء على النزعات الإرهابية والمتطرفة المتصاعدة إلا من خلال معالجة طرق تطويرها، والتى ظهر أن الجانب القبيح لـ«الإنترنت» يعززها، مثلما يفعل الدعاة المتطرفون، أصحاب التأويلات الخاطئة للدين، تماماً.
تذكرنا قصة «بيجوم» بالقدرة الكبيرة التى منحتها بعض التفاعلات على مواقع «التواصل الاجتماعى» للتنظيمات المتطرفة، عبر تحولها إلى آلية للتجنيد، ترفد من خلالها تلك التنظيمات بعناصر متنوعة من بيئات وخلفيات متعددة، كما تمنحها القدرة على الانتشار الجغرافى على رقعة كبيرة فى مختلف دول العالم.
تزيد المساحة التى تلعبها تلك التفاعلات باطراد، خصوصاً مع الزيادة الكبيرة فى عدد مستخدمى «الإنترنت» ووسائل «التواصل الاجتماعى»، واستخدام بعض الجماعات والدول لتلك الوسائل لتحقيق أهداف يمكن أن تؤثر سلباً فى أمن الدولة الوطنية.
ويتضح من قصة «بيجوم» أيضاً، وغيرها كثيرون، أن تلك العملية متكاملة بما يكفى لكى تُفعل استراتيجية استقطاب وتجنيد وتعبئة وتجهيز وتدريب وتنفيذ تامة، كما يتضح أيضاً أن الحرب مع التنظيمات الإرهابية أصعب من أن تكسبها الجيوش النظامية، من دون أن تفقد تلك التنظيمات ورقتها الرابحة المتمثلة فى الاستخدامات المسيئة عبر وسائل «التواصل الاجتماعى».
فى مأساة «بيجوم» الكثير من الدروس القاسية، ولكى لا تتكرر فثمة الكثير من الجهود التى يجب أن تُبذل، بدءاً من العائلة، ووصولاً إلى مؤسسات الدولة، مع عدم إغفال ضرورة الضغط على مُشغلى وسائط «التواصل الاجتماعى»؛ للحد من النزعات المتطرفة عبر تفاعلاتها.