تشتعل المنافسة بين وسائل «التواصل الاجتماعى» على مدار الساعة من أجل حصد المزيد من المستخدمين والتفاعلات، وبالتالى تحقيق الأرباح المجزية، لكن المنافسة بين موقعى «إكس» («تويتر» سابقاً)، و«ثريدز» تبقى ذات طبيعة خاصة.. لأنها ببساطة ليست منافسة بين وسيطين إعلاميين فقط، بل بين رجلين أيضاً.
ويبدو أن جزءاً كبيراً من المنافسة المشتعلة بين «إكس» و«ثريدز» لا يرجع لكونهما يستهدفان شرائح الجمهور ذاتها فقط، أو أنهما يعتمدان آليات عمل مشابهة فقط، ولكن أيضاً لأن ثمة صراعاً أو تنافساً على النفوذ والتأثير بين رجلين؛ هما إيلون ماسك، مالك «إكس»، ومارك زوكربيرج، مالك «ميتا»، التى تمتلك «ثريدز» إلى جانب نخبة أخرى من وسائط «التواصل الاجتماعى» الأكثر رواجاً عبر العالم.
ففى شهر أغسطس الماضى، انتشرت الأخبار عن منازلة مفترضة للقتال بالأيدى العارية بين كلا الرجلين، وهى المنازلة التى كان يمكن أن تحظى باهتمام عالمى فى حال تحققت بسبب غرابة الفكرة وتفردها. ورغم أن تلك المنازلة لم تحدث حتى الآن، فإن فكرتها، وإعلان الطرفين الاستعداد لها والترحيب بإقامتها، إنما تدل على طبيعة العلاقة بينهما، وتشى ببعض أبعادها.
لقد دفع «ماسك» 44 مليار دولار أمريكى ليمتلك «تويتر»، قبل أن يدخله حاملاً حوض مغسلة، ويطيح بمعظم العاملين فيه، ويجرى تغييرات صادمة زعزعت مكانة المنصة، قبل أن يغير اسمها إلى «إكس»، حيث كان يأمل فى أن تجلب له المنصة الأرباح، وتضعه على لائحة الأولويات الخبرية حول العالم، وتعزز قدرته على ترتيب تلك الأولويات.
الآن تبلع القيمة السوقية لـ«إكس» نحو 19 مليار دولار، وما زال الموقع يعانى تبعات بعض القرارات الإدارية المفاجئة والصادمة وغير المدروسة، لكن «ماسك» ما زال يتمتع بالمشاركة فى إرساء أولويات العالم، والبقاء على لائحة الأخبار والاهتمام الدولى بشكل يومى.
وعلى الجانب الآخر، فإن «زوكربيرج» لم يشأ أن يكتفى بإمبراطوريته الواسعة، فقرر أن يدخل منافساً لـ«ماسك» عبر إطلاق موقع «ثريدز» فى شهر يوليو الماضى، ليتمكن من مشاركة هذا الأخير فى حصة الاهتمام العالمى.
منذ أطل «زوكربيرج» على مسرح الإعلام العالمى لم يخفت ذكره ساعة واحدة. وبينما ينتفض منافسوه، ويستنفرون قواهم، ويشحذون أفكارهم؛ لمحاولة تقاسم الكعكة الكبيرة، التى يلتهمها بشغف ونهم شديدين، فإنهم يُباغتون عادة بخطواته الجديدة، التى تخترق الأسقف، وتتجرّأ على كل صعب.
أجرى «زوكربيرج» فى السنوات الأخيرة نحو 70 عملية استحواذ على شركات تعمل فى مجالات «التواصل الاجتماعى» والتكنولوجيا والبيانات، فى معظم قارات العالم، وهى شركات تراوحت قيمتها بين 200 ألف دولار أمريكى و19 ملياراً.
لم يوفّر هذا الشاب المتطلع للنفوذ منافساً إلا استحوذ عليه، أو شاركه فى بيان مهمته، أو نسخ منتجاته، أو قلّد أنموذج عمله.
كان «تويتر» يقف صامداً فى مواجهة إمبراطورية «زوكربيرج»، بنطاق خدمة متميز جعل منه آلية اتصال سياسى وفكرى متكاملة الأركان، ومساحة يتشاركها فاعلون سياسيون ومثقفون وناشطون، ويجد فيه رجال الإعلام إجابة عن معظم الأسئلة التى تهم قطاعات واسعة من الجمهور.
لقد وجد «زوكربيرج» أن «تويتر» يترنّح، والمعلنين يسحبون إعلاناتهم، والمستخدمين يحتجون على القرارات المتضاربة، والمنصة تعانى، فلم يوفر وقتاً، وراح يستنسخ أنموذج أعمالها، ويشاركها مجال اهتمامها الحصرى؛ أى سبب وجودها واستدامتها ذاته.
أطلق «زوكربيرج» «تويتر» الخاص به فى يوليو الماضى، وسماه «ثريدز»، وأدخل بعض التعديلات عليه، وضمن عشرات الملايين من المستخدمين فى الساعات الأولى من الإطلاق، بعدما ربط تطبيقه الجديد بمنصته الناجحة «إنستجرام»، والآن يقول إن عدد المستخدمين النشطين على الموقع بلغ 130 مليون مستخدم شهرياً.
وركّز المحللون مقارباتهم لتأثير الموقع الجديد على أفكار من نوع استفادة المستخدمين من احتدام المنافسة بين مزوّدى الخدمات، لكن الفكرة الأهم غابت عن كثيرين؛ إذ أضحى «زوكربيرج»، الذى تمتلك شركته «ميتا» عدداً كبيراً من أهم وسائط «التواصل الاجتماعى» فى العالم، رجلاً خطيراً بدرجة كبيرة.
تجسّد «ميتا»، عبر امتلاكها «فيس بوك» و«واتساب» و«إنستجرام»، وجديدها الطموح «ميتا فيرس»، وشبيه «تويتر» (إكس لاحقاً)، المتمثل فى «ثريدز»، وعشرات الشركات الأخرى التى تنشط فى مجالات مختلفة، أحد النماذج الواضحة للاحتكار فى عالم وسائل «التواصل الاجتماعى».
يسيطر «زوكربيرج»، من خلال «ميتا»، باطراد على الخرائط الإدراكية للإنسان الفرد وللمجتمعات، ويتوافر على أكبر قدر من المعلومات الشخصية لمليارات البشر فى دول العالم المختلفة، وهى أكبر قوة معلوماتية تجتمع فى يد رجل واحد على مرّ التاريخ. ولعل ذلك هو أحد العوامل التى تعزز أهمية «إكس»، رغم كل تخبطات إيلون ماسك.
أما «ماسك»، فإنه لا يقل أهمية عن «زوكربيرج» بكل تأكيد، ليس فقط لامتلاكه «إكس»، ولكن أيضاً بسبب امتلاكه أو مساهمته فى شركات أخرى مثل «نيورالينك» و«سبيس إكس» و«تسلا»، والأهم من ذلك هو مشروعه الأخير لزرع الشرائح الإلكترونية فى الأجساد البشرية، لتدمج بين قدرات الدماغ البشرى والذكاء الاصطناعى، وتخلق قوة جديدة جبارة، ستغير شكل العالم الذى نعرفه.
على إيقاع المنافسة بين الرجلين تتفاوت حظوظ «إكس» و«ثريدز»، كما تزدهر أعمال وسائط «التواصل الاجتماعى»، وتتحقق فوائد للمستخدمين، وتتعزز حرية الرأى والتعبير، بينما تتفاقم مخاطر «تهكير الأدمغة»، والهيمنة عليها، و«الاتجار فى الخصوصية» كذلك.