ثمة الكثير مما قيل عن الصداقة؛ إذ يبقى مفهومها بين أكثر المفاهيم التي تحفل بطيف عريض من القيم والمناقب، كما أنه يلامس روح كل إنسان راشد، ووجدانه، ويلقي بظلاله على تاريخه الاجتماعي والنفسي، ويصنع في حياته القدر المكتوب من المعاناة أو الفرح، ومن الاضطراب أو الطمأنينة، ومن الإخفاق أو النجاح.
ورغم كثرة هذه الأقاويل، ورغم تنوعها وتفاوت حظوظها من الإحكام ودقة التعبير؛ فإن ما قاله فولتير، في هذا الصدد، يظل الإسهام الأكثر بلاغة؛ حين خاطب الصداقة قائلاً: "لولاك لكان المرء وحيداً، وبفضلك يستطيع المرء أن يُضاعف نفسه، وأن يحيا في نفوس الآخرين".
سيكون لهذا التعبير الفولتيري عن الصداقة مصداقية كبيرة لديّ، ذلك أن هذا الوصف هو ما سأتذكره دائماً حين تُطل ذكرى صديق العمر الدكتور هشام عطية، الذي رحل عن عالمنا فجأة، في الأسبوع الماضي، تاركاً صدمة ووجعاً لدى الآلاف من أحبائه، ومخلفاً مأساة مفجعة في نفسي، لا أعرف كيف سأتجاوزها.
ليست تلك محاولة رثاء شخصية من صديق فقد صديقاً لا يُعوض، ولكنها شهادة عن إنسان رحل بعدما اجترح لنفسه صيغة المثال، وحافظ على تماسكه الإنساني والاجتماعي لنحو ستة عقود، رغم ضغوط وتحديات عاتية، لم أضبطه يوماً خلالها إلا كريماً معتداً ناصحاً صادقاً مستقيماً وشهماً.
كما أنها أيضاً ليست تباريح شخصية؛ إذ إن هشام عطية كان شخصية عظيمة، حيث اتفق الذين تناقلوا أخبار رحيله المفاجئ على وصفه بـ "أيقونة الصحافة"، وبأنه "من رموز كلية الإعلام جامعة القاهرة"، وبأنه من علامات الإعلام المصري المُشرقة والمُشرفة.. وهو أستاذ أجيال.
في بعض المعالجات الصحفية، التي كان هشام مغرماً بتقصيها على مدى مسيرته البحثية، كتب صحفيون أن مواقع "التواصل الاجتماعي تحولت دفاتر عزاء"؛ إذ إن تأثيره كان قد تخطى كونه أستاذاً ومُعلماً مُجيداً إلى كونه داعماً ومسانداً لكل تجربة أو شخص يسعى نحو خير أو إنجاز.
عرفت هشام مبكراً في مطالع الشباب؛ إذ كان زميلي في كلية الإعلام، وجاري، وكان والده، رحمة الله عليه، معلمي في المدرسة الثانوية.
لكن سرعان ما تحولت تلك الزمالة إلى صداقة متينة وعميقة، امتدت 38 عاماً، وفي مراحل مختلفة منها أصبح هشام أستاذاً لي ومُعلماً ومُلهماً.
ذاكرنا سوياً، وسافرنا سوياً، وعملنا سوياً، وكنت معه يوم زواجه، ويوم زواج أول أبنائه، وكان معي في كل مفصل من مفاصل حياتي العملية والشخصية.
أقنعت الدكتور هشام بأن يعمل بالصحافة، ووافق، وكان هدفي من تلك الفكرة أن تزدهر تجربته العلمية وتتعاظم بالخبرة العملية. وهو أقنعني بأن أكمل دراساتي العليا، أو حملني على ذلك قسراً، مُستغلاً سلطته المعنوية، وقد امتثلت، بعدما تعهد بأن يساعدني في كل خطوة، وقد وفى كما اعتاد دائماً.
في تاريخه العلمي والبحثي نقاط مبهرة؛ فهو أول دفعتنا بأقسامها الثلاثة، ولاحقاً أعد رسالة ماجستير مُحكمة عن تأثير السياسة الخارجية للدولة المصرية في المعالجات الصحفية، وأتبعها بدكتوراه عن علاقة النخب السياسية بالصحافة، ثم حصل على جائزة الدولة التشجيعية، تقديراً لمساهمته الجادة في مجال العلوم الاجتماعية.
لكن الأبحاث التي أعدها هشام لاحقاً في مسيرته البحثية كانت تعكس قدرة كبيرة على التقاط التفاصيل، والابتعاد عن التكرار والمباشرة، كما كانت تعبر عن تكوينه الثقافي المتكامل ونزوعه الموسوعي؛ ومن ذلك، أنه أعد بحثاً عن الصورة الذهنية للذات العربية في الصحافة العربية، وآخر عن سمات أدوار المرأة والرجل في الصحافة، وثالث عن المستقبل كما يدركه المصريون، وكان هذا في أعقاب انتفاضة يناير 2011، وما خلفته وكشفت عنه من تحولات وتطلعات.
وعندما وصل هشام إلى رتبة الأستاذ، توالت عروض العمادة عليه، لكنه كان متردداً في قبولها، مخافة أن "يحرمه هذا من عشقه للعمل كباحث".
على أي حال، فقد قبل هشام عرض العمادة الذي قُدم إليه من جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وفي كلية الإعلام بتلك الجامعة المُحترمة، صنع تجربته الإدارية المُبهرة.
كان بابه مفتوحاً للجميع.. وحتى أصغر عامل وطالب، لكن الأهم من ذلك أن عقله وقلبه كانا مفتوحين أيضاً، وبسعة كل الحاجات والشكاوى والمطالب والأفكار والطموحات المشروعة والجادة.
تعب هشام من العمل الإداري، وخاف على مشروعه البحثي المستديم، وعلى مشروعه الأدبي الوليد، الذي كانت معالمه تتشكل في أيامه الأخيرة كعميد، فقرر المغادرة.
في محادثاتنا اليومية الأخيرة، كان يحدثني عن كتاب "أفيون وبنادق" الذي أعجبه، وحول كتاب آخر عن ذكريات مقاتل في حرب 1967، وهو الكتاب الذي أعاد فتح سجال معتاد بيننا لم يسكت يوماً، لكن الأهم من ذلك أنه كان يحدثني عن عمله الأخير.. الرواية التي أنجزها في 133 صفحة؛ وعنوانها "ليلى التي أعرفها".
عشية رحيله المفاجئ، أبلغني أنه بصدد البدء في كتابة رواية جديدة عن رجل في العقد السادس من عمره، تنمو معه نظرة مختلفة للعالم على عكس ما اعتقد أنه واجب وصحيح طوال حياته، وكان فرحاً بهذا المشروع ومتفائلاً.
وعندما توقف قلب هشام عن الخفقان، كنت في طائرة مُعلقا بين السماء والأرض، وحين هبطت، جاءتني الاتصالات والتعازي، وداهمتني الفاجعة.
ومنذ ذلك الوقت، لم أستطع الذهاب إليه، أو الرجوع إليّ، وبقيت هكذا مُعلقا بين الأرض والسماء.. إلى لقاء يا صديقي الذي أعرفه.